طلال سلمان

ترامب الضرورة

منذ سقوط نظام القطبين الأعظم ونحن في انتظار مولد نظام آخر. عشنا مع الأمريكيين والغربيين عموما أوهاما قصيرة العمر جسدتها محاولات جورج بوش الكبير إقناع العالم أن بلاده تقود منفردة وأن نظام القطب الواحد يعبر أفضل تعبير عن واقع التفاعلات الدولية في ذلك الوقت. كانت الصين تصعد ولكن في هدوء. لم تمارس القفز فلم تلفت الأنظار ولم تثر المخاوف. كانت الإمبراطورية السوفييتية، القطب الثاني في النظام القديم، تتفكك. راحت تنفرط وسط ضجيج هائل في الغرب ورغبات عارمة في الاستحواذ والسيطرة وتصفية قواعد وأيديولوجية هيمنت طويلا. فاجأت أمريكا العالم بعجزها عن أداء وظيفة القيادة الملقاة على عاتقها. فاجأتنا جميعا حين وجدناها تسلم مقاليدها السياسية والعسكرية لجماعة المحافظين الجدد وأغلبهم من عتاة الصهيونية المتطرفة فأدخلوها حربا في الشرق الأوسط خربت سمعة العسكرية الأمريكية وأسقطت وهم أمريكا القطب الأوحد. فاجأتنا المفاجأة الأكبر حين اكتشفنا أنها بمختلف المقاييس تنحدر. رأينا كيف تشققت بناها التحتية وكيف أنها لم تكن على المستوى المناسب لصد سلبيات العولمة التي كانت هي قبل عقدين أو ثلاثة صانعتها ومولدة طاقتها. هذه السلبيات أرست القاعدة التي شجعت على ظهور دونالد ترامب وجماعته وتدعم وجوده في السلطة وربما استمراره فيها إلى عام 2024.

***

ما زلت أشارك في تبني الرأي القائل أن باراك أوباما كان القائد الذي يعود إليه الفضل في التنبيه إلى خطورة الوضع الذي تدنت إليه أمريكا في معيار القوة الذاتية ثم القوة المقارنة. أوباما أراد أن يلم تشتت الانتباهات الأمريكية في الخارج ويركزها على آسيا. كان مدركا لحقيقة أن أمريكا أصيبت إصابة بالغة في جناحها العسكري خلال وبسبب حربها في العراق ووجودها في الشرق الأوسط . كان مدركا أيضا لحقيقة أن الولايات المتحدة لا يجب أن تتورط فتطير خارج حدودها بجناح عسكري مهيض وجناح اقتصادي منهك بسبب الأزمة المالية والاقتصادية وتداعياتها. لم يكن هذا الأمر غائبا عن بعض قادة أوروبا ولم يكن غائبا بالتأكيد عن العقل الاستخباراتي الحاكم في موسكو. هكذا في رأيي بدأت تستفحل أزمة الثقة داخل معسكر الغرب. كان واضحا لمعظم القادة الغربيين أن روسيا التي عادت تنهض لم تغفر للغرب ما فعله وحاول أن يفعله في دول جوارها فور انفراط هيمنتها على هذه الدول. ولن تبقى طويلا صامته وغير فاعلة في مواجهة توغل حلف الأطلسي نحو حدود روسيا الغربية. في الوقت نفسه لم يكن غائبا عن فكر هؤلاء القادة الأوروبيين أن أمريكا تنسحب وتتخلى عن مسؤولياتها في قيادة المواجهة مع روسيا وبخاصة عندما أعلن الرئيس أوباما نيته فتح فصل جديد في سجل العلاقات الأمريكية مع روسيا.

***

من ناحيتها لم تغير روسيا للحظة واحدة اعتقادها أنها لا يجب أن تطمئن لنوايا الغرب تجاهها. الغرب منذ قرون خلت يسعى لإضعاف روسيا وحرمانها من ممارسة نفوذ مستحق لها في كافة الساحات السلافية العرق والثقافة في شرق ووسط وجنوب أوروبا، وحرمانها من الوصول إلى المياه الدافئة في البحرين الأسود والمتوسط والخليج.

روسيا، وبخاصة الطبقة السياسية ذات الأصول الأوليجاركية والبيروقراطية والحاكمة الآن في موسكو، تعلم أن قوة الغرب تكمن في مصادر معروفة، أهمها بالنسبة لروسيا المعاصرة مصدران أولهما تماسك الغرب كجماعة تعتنق منظومة قيم ليبرالية وديموقراطية تمارسها وتبشر بها. أما المصدر الثاني فهو تماسك الحلف الغربي وخضوعه بالرضا التام لقيادة لم تتغير على امتداد سبعين عاما. وبالتالي فإن شاءت روسيا تأمين مستقبلها كدولة أوراسية بنفوذ قوي أو شاءت استعادة وضعها الإمبراطوري وإن في حدود أضيق، فما عليها كواجب أول سوى أن تتدخل لتهز ثقة الشعوب الغربية في جدوى اعتناقها الديموقراطية والقيم الليبرالية، وما عليها كواجب ثان سوى أن تتدخل أيضا لتهز قاعدة أو مبدأ اعتماد أوروبا المطلق على أمريكا، وذلك بأن تجعل نفسها المصدر الآخر لاعتماد أوروبا على الخارج. وما عليها كواجب ثالث سوى أن تنشر أسبابا كافية للشقاق بين دول الغرب. هذا بالضبط ما تفعله روسيا الآن، أو على الأقل هو ما تتهمها بارتكابه أجهزة الاستخبارات الغربية وكلها قدمت الدليل على صحة اتهاماتها.

***

هناك في الولايات المتحدة من يتهم دونالد ترامب بالعمالة لروسيا أو التواطؤ معها وتشجيعها على التدخل في الشؤون الداخلية وبخاصة التدخل في الحملة الانتخابية التي فاز فيها ترامب بمنصب الرئاسة. هناك أيضا من يعتقد أن المصادفات تلعب هذه الأيام دورا حيويا في صنع وصياغة المستقبل السياسي للعالم ويختار من هذه المصادفات الظهور المفاجئ لرجل الانشاءات العقارية والملاهي وكازينوهات القمار والتجارة في النساء، ومنها أيضا، وأقصد من المصادفات، خروج شخصيات إعلامية وسياسية تقود تيارات شعبوية توصف أحيانا بالهدامة لأنها لا تخفي عداءها للمؤسسات الحزبية والبرلمانية والصحافة الحرة وحريات الرأي والتعبير والحركات الحقوقية ومنظمات العمل المدني. تعاملت هذه التيارات الشعبوية مع دونالد ترامب وتعامل معها كنبي من أنبيائها. معروف لنا أن عددا من حواري أو عقول السيد ترامب جابت أوروبا قبل انعقاد قمتي بروكسل للناتو وهلسنكي لرئيسي أمريكا وروسيا. نذكر كيف راحت الاتهامات تكال لترامب عن تصرفاته “الهدامة” في بروكسل للحلف الغربي وتصرفاته “الهدامة” في لندن للاتحاد الأوروبي وتصريحاته وتصرفاته “الهدامة” في هلسنكي لاستقلال بلاده ومكانتها وكفاءة مؤسسات بلاده الديموقراطية والاستخباراتية. اجتماع المصادفات هنا يدعو للدهشة. ففي الوقت الذي تتعدد فيه شهادات الإدانة لموسكو بارتكاب تصرفات وتدخلات هدامة في دول الغرب ومؤسساته يظهر ترامب زعيم أكبر دولة غربية وهو يمارس بنفسه وفي بلاده عمليات هدم القيم والمؤسسات المتهم بممارستها ضد أمريكا ودول غربية أخرى الرئيس بوتين وأجهزة الحكم الروسية.

***

لكن ليس كل ما يحدث الآن من جانب أمريكا يقع تحت بند المصادفات. لم يكن تصريح الرئيس ترامب أن ألمانيا ومستشارتها خاضعتان لروسيا مصادفة. أظن أنه أراد أن يبلغ رسالتين. أراد أن يعلن للعالم حقيقة أن أمريكا وروسيا يتشاركان النفوذ في ألمانيا، بمعنى أن الوجود الروسي في أوروبا لا يمكن إنكاره. أمريكا عن طريق 34000 جندي أمريكي وروسيا عن طريق أنابيب تحمل الغاز الروسي إلى ألمانيا ودول أخرى في أوروبا. أراد أيضا أن يقول للأوروبيين أن حلف الأطلسي فقد معنى وجوده، أو هو على الطريق ليفقده. روسيا التي كانت تعترض على اقتراب الحلف من حدودها الغربية هي الآن في قلب أوروبا ولا يمكن الاستغناء عنها.

اسأل مترددا ومحتارا. ترامب رئيس لدولة عظمى متراجعة ونفوذها منحدر ومع ذلك وبجسارة متناهية استطاع ترامب أن يعلنها حربا تجارية ضد الصين الدولة الصاعدة الآن بسرعة نحو القمة. الحرب بينهما نشبت وأظن أن الطرفين لن يتراجعا طالما بقي ترامب رئيسا. لا أحد غير ترامب كان يستطيع الدخول في مواجهة مع الصين في هذا الوقت شديد الحساسية في العلاقات بين دول القمة. لا أحد غير ترامب كان يستطيع أن يعترف بأن الوحدة الأوروبية ضارة ببلده وبالسلام العالمي، أو أن يشكل جبهة عريضة من دول تعتنق الشعبوية أساسا للحكم وتقف ضد الحقوق والحريات والديموقراطية ويعلن بصوت عال تقديره وإعجابه بالرجال الأقوياء الذين لا يكترثون بالآخر. أبدى إعجابه بكيم رئيس كوريا الشمالية وبوتين ودوتيرتي رئيس الفيليبين وقادة الحكم في تايلاند وميانمار. لا أحد غيره يستطيع المجاهرة بذلك الحب والتقدير في عالم لم ينزلق بعد تماما في أتون الشعبوية الجديدة. لا أحد غير ترامب كان يستطيع الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ووقف العمل بالاتفاق النووى مع إيران ويقول لرئيسة وزراء بريطانيا أنت لا تصلحين للحكم لأنك لا تكرهين الاتحاد الأوروبي بالدرجة الكافية. لا أحد غير ترامب يستطيع أن يدخل في صراع مع أهم دولتين لأمريكا، وأقصد المكسيك وكندا ويتعمد تحقير زعمائهما.

***

لا شك في أن وجود ترامب رئيسا للولايات المتحدة في هذه اللحظات الحاسمة في مرحلة الانتقال إلى نظام دولي جديد سوف يكسب النظام القادم معالم مختلفة عن كثير مما عهدناه من قبل. شخصيا لا أستبعد أن تكون دول بعينها وكثيرة عرفت كيف تستفيد سرا أو علنا من وجوده، وليس بالضرورة تواطأت معه، وأن تغييرات ملموسة سوف تنعكس عليها وعلينا في القريب العاجل.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

Exit mobile version