طلال سلمان

تراجع الاندماج الإقليمي: التجربتان العربية والأوروبية

حلم عربي وحلم أوروبي مهددان بالإحباط. كلاهما يتعلق بالاندماج الإقليمي. جاءا محمولين على أجنحة آمال كبار في أن تحقق التنمية الإقليمية ما لم تقو على تحقيقه التنمية القطرية، وأن يحقق الأمن الجماعي ما ثبت عجز العمل المنفرد عن الوفاء به على كلا المستويين الإقليمي والقطري.
نستطيع بكل بساطة إلقاء مسؤولية الإحباط على عاتق الحكام، وربما بقدرة أوفر، على النخب الحاكمة التي التزمت ولم توف، أو التزمت بدون اعتناق كاف، أو التزمت شكلا تحت ضغط أو آخر ولم تصدق فعلا وأداء.
نستطيع في الوقت نفسه أن نكون أشد ميلا للموضوعية فنقرر أن تحولات جيو إستراتيجية في الإقليمين أجبرت النخب الحاكمة على تبني سلوكيات بعينها وشجعتها على تسريع خطوات الاندماج في مرحلة وإبطائها في مراحل أخرى. تحولات أخرى دفعت دولا في الإقليمين على التخلي عن الإيمان بفكر التكامل الإقليمي والكفر بكل أشكال العمل الإقليمي.

***

لا جدال مثلا في أن سقوط الشيوعية يتصدر قائمة طويلة من التحولات الإستراتيجية التي أثرت تأثيرا مباشرا على مسيرة الوحدة الأوروبية. الشيوعية، كما نعرف، كانت نموذجا بارزا لخطر داهم يهدد دول غرب القارة الأوروبية وبالتالي كانت الدافع الرئيس لمساعي الاندماج الإقليمي. كذلك وبالمنطق ذاته كان سقوطها فرصة تاريخية للإسراع بضم دول عديدة كانت شيوعية وأفلتت بتكلفة عالية فاستحقت عضوية عاجلة واستثنائية في الاتحاد الأوروبي.
فجأة تمددت “الفكرة الأوروبية” من غرب القارة لتشمل معظم مساحة أوروبا. جاء التمدد بطبيعة الحال على حساب حجم وكفاءة الأرصدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي استندت إليها الفكرة. بمعنى آخر صار الواقع الجديد عبئا على الإمكانات المحدودة للفكرة وللدول، وتحديدا لكل من فرنسا وألمانيا الثنائي الذين قاد  مسيرة الوحدة في مرحلة الإنشاء كما في مرحلة التصدى لتنفيذ التمدد.

***

بترتيب مختلف وأداء أيضا مختلف وثقافة سياسية شديدة الاختلاف مرت مسيرة الاندماج العربي بمراحل صعود وانحدار بدرجات متفاوتة. نشأت جامعة الدول العربية بعضوية سبع دول كان التكامل هدف أكثرها وبخاصة بعد  تأكيد التزامها التكامل بتوقيع الاتفاق على تحقيق التعاون الاقتصادي.
لا شك أن الجامعة عملت بجهد واضح ومؤكد على التعجيل باستقلال شعوب عربية وتخليصها من الاحتلال الأجنبي لتنضم بدورها إلى قائمة الدول الأعضاء في الجامعة. لم تحسب الدول المؤسسة حساب تكلفة هذا الانضمام الجديد.
كان واضحا منذ البداية أن “ثلاثية عربية” سوف تقود مسيرة دعم الاستقلال والانضمام وكذلك توفير الحد الأدني الممكن من المساعدة الاقتصادية والعسكرية الضرورية لدولة فقيرة ناشئة. كانت المساعدات محدودة سواء كأرقام مطلقة أو بشكل نسبي، وبالتالي نشأت الشكوك في قدرة هذه المؤسسة التكاملية العربية على توفير الأمن الاقتصادي والعسكري لأعضائها. هكذا درجت الجامعة على ضم أعضاء جدد قبل الاستعداد الكافي لإدماجهم أو على الأقل التحضير لعضويتهم ببرامج تكامل واستيعاب. لم تكن العضوية الجديدة دائما قوة مضافة للطاقة التكاملية بل على العكس وكالحال في التجربة الأوروبية كانت في معظم الأحوال عبئا على مسيرة الوحدة أوالتكامل.

***

في الحالة الأوروبية كانت االشيوعية حافزا قويا للعمل لتحقيق تكامل يمهد لوحدة، وكان انكسارها، وأقصد الشيوعية، العنصر الذي عجل بترهل الاتحاد الأوروبي وإطلاق العملة الموحدة قبل أوانها والتركيز الشديد، والأيديولوجي إن صح التعبير، على إزالة الحدود بين الدول الأعضاء وإغفال أمن ودعم الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي ككل حتى وقعت الواقعة على يد هجرة موسعة من خارج القارة.
في الحالة العربية وجد الحافز المماثل في شكل الصهيونية كفكرة وعقيدة غازية وعنيدة وعدوانية. كانت في البداية مثل الشيوعية في أوروبا حافزا على الوحدة، ولكن في النهاية اختلفتا. الشيوعية سقطت منهزمة أما الصهيونية فانتصرت.
صعود الصهيونية كان حافزا لتنشيط أيديولوجية إقليمية مناهضة للصهيونية، وانتصارها أو على الأقل توالي صعودها كان عاملا محبطا ومثبطا للهمم، قطرية كانت أم جماعية.
انتصار الصهيونية، ولو بشكل نسبي ولكن ملموس، وانتكاس العروبة كأيديولوجية وقائية وانفراط الثلاثية المصرية السعودية السورية كقاطرة قيادة أو توجيه في النظام العربي وداخل مؤسساته، والغزو الأمريكي للعراق، وصعود الطائفية والوطنيات الضيقة أو الشعبوية، وتدهور قدسية الحدود الخارجية للإقليم العربي وترهلها وضعفها إما قوى الاختراق الخارجي وانهزام الحدود والمقاومة الداخلية في مواجهة قوى الاختراق الإسلامي المتطرف، وانتكاسة خطط النمو وانخفاض أسعار النفط وتباطؤ التجارة العالمية وظاهرة ترامب الداعم لحكومات القمع والعنف، هذه العناصر وغيرها، مثل توسع فجوة االدخول، هي التي تسببت في انهيار مسيرة التكامل العربي وهي نفسها العناصر التي ساهمت في فتح أبواب الانفراط الإقليمي العربي.

***

هناك يسمونها بريكسيت، أو الخروج البريطاني من الإقليم الأوروبي. هنا نسميها سقوط سوريا. لا شيء، لا شيء على الإطلاق كان يمكن أن يكون سببا مباشرا ووحيدا في سقوط النظام العربي لو حدث وسقط فعلا إلا السقوط السوري. خروج بريطانيا سوف يجعل البريطانيين يندمون على استفتاء صوتوا فيه بنعم على خيار الخروج من أوروبا. قلت إن هناك العديد من الأسباب ومنها انكسار الفكرة الأوروبية، ولكني أصر على القول بأن خروج بريطانيا سيكون السبب الوحيد المباشر وراء سقوط بريطانيا ذاتها أولا ثم انحسار أوروبا الموحدة، حينها ستخرج من أوروبا دولة بعد أخرى.
قلت كذلك إن هناك العديد من الأسباب وراء انفراط النظام العربي ومؤسساته لو وقع الانفراط، لكني أصر على القول بأن سقوط سوريا سيكون السبب المباشر الوحيد وراء انفراط النظام العربي بل وانفراط عدد غير قليل من الدول الأعضاء في هذا النظام.

***

الفكرتان تنحسران، فكرة العروبة والفكرة الأوروباوية. كلتاهما نشأتا في ظرف عالم يتعولم وينحسران في ظرف عالم يرتد عن العولمة. أمامنا وأمام المفكرين الجدد في أوروبا فرصة لإبداع فكر تكاملي جديد يستوعب التحولات الجيواستراتيجية الهائلة ويضبط حركة النهضة في كلا الإقليمين العربي والأوروبي.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version