طلال سلمان

تدهور بيئة صنع القرارات السياسية المتعلقة بمستقبل الشرق الأوسط

أظن، وبعض الظن في أيامنا الراهنة اجتهاد مستحق وضروري، أظن أن التاريخ، حسب ما وصل منه إلينا وحسب بعض منه نعيشه بأشخاصنا أو بأوهامنا وأحلامنا، ربما لم يشهد أو يعايش بيئة متدهورة محيطة بمواقع صنع السياسات بالشرق الأوسط كالبيئة الراهنة.

***

تأكد لنا بطول المراقبة أن تحولات كبرى تنتظر الشرق الأوسط. تحول من هذه التحولات أعلن فشله قبل أن يتجسد حقيقة واقعة. أقصد الفشل الذي أصاب مشروع قيام منظومة إقليمية عربية بعقيدة قومية جامعة وشاملة. تقلص المشروع متدرجا لأسباب داخلية يطول شرحها ولكن أيضا تبقى بسبب حصار فرضته بيئة معادية له في أسوأ الأحوال أو بيئة متمردة في أحوالها العادية. إزدادت هذه البيئة تعقيدا حين تصادم وبعنف كبير جانب من عقيدة المشروع “العروبي”، وأقصد جانب “المقاومة”، مع تحالف شيطاني الطابع من قوى الغرب المنسحبة من الإقليم وقوي الصهيونية المتقدمة بإصرار تدعمه قلاع المال المنتشرة في أوروبا وأمريكا وتغلفه الأسطورة أو “الحدوتة”.

***

كنت، بين آخرين، شاهدا لأكثر من مرة على هذه الاصطدامات. عشت أحفظ عن ظهر قلب مدونة أيام نهوض الأمة العربية وعشت أياما أخرى مع المقاومين، وعشت أياما من نوع ثالث أراقب توقف النهوض ثم بدء انحداره ثم تقلصه وحصره داخل أسوار منيعة. بمعنى آخر عشت دورة كاملة من دورات نهوض الأمم وانحدارها، نهوض وانحدار في جيل واحد. أعتز حقيقة بنظرات تبجيل وتقدير أحاطتني بها خلال أيام المقاومة والنهوض شعوب عظيمة عشت بينها مثل الهند والصين وتشيلي والأرجنتين، لم ألمح النظرات نفسها عندما عدت لزيارتها بعد أقل من عشرين سنة. تصادفت العودة مع نهوض عربي متوقف ومقاومة قومية بالسلاح أو بغيره منعدمة أو غير لائقة وخلافات عربية أعمق وملامح انحدار ملموس.

قال قائل من أهلنا “لعل تجربة نهوضنا كانت أثقل من قدرتنا على تجديده وتطويره أو حتى على مجرد حمله”. حسب صاحب هذا الرأي كانت تجربة مكلفة، وفي رأي كثيرين باهظة التكلفة. المدهش أن هذه الحجة نفسها تهيمن الآن على بيئة صنع القرار السياسي في كل ساحة عربية أو ساحة مجاورة للعرب. صرنا نسمعها همسا وعلنا وفي كل المجالس، “لا للمقاومة فتيار الانحدار جارف ولمصلحتنا يجب الابتعاد عن كل مجاريه وروافده وأهمها هذا الرافد، رافد المقاومة”. قال آخر منهم أو منا “خذوا حذركم، فالمقاوم بلسانه أو قلمه أو حنجرته مصيره أن يطالبكم بسلاح خاص به بحجة إن العدو يطارده ليقتله، ولا أحد يتقدم لحمايته أو الدفاع عنه، فإن تقدمتم أو ترددتم فمصيركم من مصيره الذي هو مصير أهل غزة وكل فلسطين إن استمرت تقاوم”.

***

كثير من هذا يثير غيوما كحيلة حول صناعة وصناع القرار السياسي في عالمنا الجنوبي. أسمعه كل يوم على لسان عربي مقاوم أو في شوق ليوم مقاومة. أمريكا ما تزال صاحبة الست وتسعين ورقة من أوراق القرار السياسي العربي وربما زادت النسبة بوجود شخصية فريدة أو نادرة في سجلات تاريخ قيادات الإمبراطوريات الغربية.

الشخصية هي للسيد دونالد ترامب. الرجل الذي جعل العلاقات الدولية لعبة شد حبل بين عملاق من ناحية وصغار أبرياء أو ضعاف بنية أو رجال انهكتهم المطاردة والتجويع على الناحية الأخرى. الرجل الذي جعل العالم ساحة كساحات بيع العبيد لمن يدفع أكثر ولمن على وفاق مع “عتاولة” المال الصهيوني وسماسرة الصفقات العظمى. الرجل أو الزعيم الذي تفوق على غيره من قادة الولايات المتحدة في سباق التنكر للقيم الليبرالية والديموقراطية وتقاليد احترام الحقوق والحريات. تجاسر الرجل فدعا إلى إعادة أمريكا إلى عظمتها ولو على حساب صحة مواطنيها وعدالة مطالبهم الاجتماعية والسياسية. سمعت أن مسئولا أوروبيا قال، “وهل ننتظر من هذا الرجل احترام شعوب حلفائه الأوروبيين، أو نطمئن إلى قيادته لوقف استمرار انحدار الغرب”.

***

كثيرون وجدوا أعذارا لزعماء في عالم الجنوب تخلوا عن عقائد ورثوها عندما اكتشفوا أن التزامها غير مفيد وقد يضر. هناك من تخلوا عن عدم الانحياز وآخرون عن “الأفريقانية”، وغيرهم أداروا ظهورهم لعقيدة التعايش السلمي أو المبادئ الخمسة المؤسسة لروح باندونج، ونسمع عن زعماء عرب فقدوا الثقة في العروبة وبخاصة بعد أن تخاصموا عند تعريفها ورسم حدودها وحساب تكلفتها أو بعد أن تعاهدوا على إنكارها أمام الغرباء.

***

حاولت جاهدا أن أقرأ في سياسات الرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط ماذا يعني له “العربي”، فهمت أنه لا يرى إلا إسرائيل في الشرق الأوسط ومالا وفيرا في انتظاره ليحمله ويرحل به وفلسطينيين أجرموا في حق إسرائيل وأمريكا حين سبقوا اليهود لسكنى هذه الأرض الجميلة قبل أن تقع عليها أعين يهود من نوع نتنياهو ومطورين من نوع ترامب وأديلسون وويتكوف وغيرهم كثيرون. الناس يسألون وهم معذورون في فضولهم، يسألون إن سقطت فلسطين فعليا من جدول اهتمامات العرب أم ليس بعد، ويسألون إن لم تكن مواقف الاتحاد الأوروبي الأخيرة من أمر الدولتين أكثر من تبرئة ذمة خاصة وأن مستقبل هذا الأمر يزداد غموضا وتعقيدا مع كل يوم يمر.

***

لا يختلف اثنان حول الاعتراف بأن السنوات الأخيرة في عالم العلاقات الدولية شهدت ميلا متزايد القوة للتعاطف مع حكومات وزعامات شعبوية التوجه بل ونازية الهوى. كثيرة هذه الأيام التوجهات المتطرفة دينيا ومذهبيا وقبليا وطائفيا على حساب قاعدة “الدولة الأمة”. كثيرة أيضا، وبخاصة في الشرق الأوسط الأساطير المتوارثة والمختلقة وبالتالي كثيرة هي الأوهام والأحلام أسطورية المولد والطبيعة. أخشى ما أخشاه أن يتكرر نموذج الانفراط السوري حول أساطير من هذا النوع أو ذاك. هذا الانفراط أثبت أنه المفضل لدى منظري السياسة الخارجية الإسرائيلية وبالفعل صار يحتل مكانا بارزا في منظومة إسرائيل الكبرى أو الشرق الأوسط الجديد، المنظومة الجاري نسجها حاليا باتفاقات وترتيبات تضمن تطبيق نظام أمن وحماية، تسعي إسرائيل لتطويره ليليق شكلا وقدرة وليصبح الدرع الواقي لدول صغيرة في الشرق الأوسط ضد “النفوذ الإيراني” أو غيره.

***

كثيرون صاروا يفضلون إضافة مسألة التغير في نظام توازن القوى العربية إلى قائمة تعقيدات البيئة الحاضنة لجميع عمليات صنع القرار العربي. لا أرفض هذا الرأي وإن كنت أخشى علينا جميعا من خطورة تسليم هذا الأمر برمته إلى “السوشيال ميديا” حيث العواطف جارفة والتعقل والرشادة منبوذتان. هنا يكمن الخطر ويتهدد السلم وقد تسقط قلاع كثيرة إذا لم يسرع القابضون على التوازن فأبعدوه عن الشارع وأعادوه إلى حيث يجب أن يكون، في “منظمة عمل عربي مشترك” متطورة ومعدلة وناجزة.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version