طلال سلمان

تحية امام مغيب من وطن مهدد تغييب

شاء لنا الحظ أن نكون بعض آخر من يجلس إلى الإمام موسى الصدر فيستمع إليه، قبيل انتصاف ليل الثامن والعشرين من آب 1978، في غرفته في «فندق الشاطئ» بمدينة طرابلس الغرب في الجماهيرية العربية الليبية.
كنا قد ذهبنا مجموعة من محرري «السفير» وأصدقائها لإجراء حوار فكري ـ سياسي مع العقيد الذي تحوّل إلى منظّر ومبشّر بالنظرية العالمية الثالثة، معمر القذافي، عشية احتفاله بالذكرى العاشرة «لثورة الفاتح» في الأول من أيلول (… وها هو الآن يحتفل بالذكرى الأربعين!!)..
ولقد أسعدتنا مفاجأة أن نعرف أن الإمام موسى الصدر قد وصل من الجزائر للقاء العقيد القذافي، بناء لاتصال أجراه الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، ملحاً على «الأخ معمر» أن يستمع بانتباه إلى ما سوف يقوله «هذا المرجع المحترم» حول مخاطر مصيرية تتهدد الأمة جميعاً انطلاقاً من لبنان، ونتيجة لتورط المقاومة الفلسطينية في شؤونه الداخلية التي هي أشبه برمال متحركة… منبهاً إلى أن إسرائيل ستكون هي المستفيد الأول والأخير، وأن العرب جميعاً سيدفعون ثمن غفلتهم عموماً أو تورط بعضهم من ممثلي سلطات وقوى سياسية متعددة، خصوصاً مع تغييب مصر ـ السادات وتحول دورها إلى نقيضه في إسار صلح العار مع العدو الإسرائيلي.
هذا، على الأقل، ما فهمناه من الإمام موسى الصدر حين ذهبنا إليه ليلاً، في جناحه، للسلام عليه، فرحب بنا وجلس إلينا يبثنا بعض همومه التي دفعته للقيام بهذا الجهد الاستثنائي، وهي هموم لبنانية ـ عربية عنوانها العريض «الخوف على فلسطين في ظل العجز العربي عن تحمّل مسؤوليات المواجهة مع المشروع الإسرائيلي» الذي بين أسباب وجوده واستمراره وتعاظم قوته انشغال القيادات العربية عنه والهرب من حربه بالتآمر بعضهم على البعض الآخر… وفي بعض الأحيان بالتواطؤ مع العدو الذي قد يغدو في لحظة ما حليفاً موضوعياً بالمصلحة لهذا الطرف أو ذاك..».
تحدث الإمام موسى الصدر كمن يقرأ في كتاب مفتوح، فقال ما مفاده: إن الامتحان الأخطر للأهلية العربية سيكون في لبنان، فحماية هذا الوطن الصغير واجب قومي وديني وإنساني. إن إسرائيل تريد تدمير هذا النموذج الناجح لوعي العرب مسؤولياتهم تجاه مكونات مجتمعاتهم.
وأفاض الإمام الصدر في تعداد المخاطر التي تتهدد القضية الفلسطينية وليس المقاومة الفلسطينية فحسب، نتيجة التورط والتوغل داخل هذا النموذج الناجح، لبنان، الذي قد يتفجر متسبباً في حروب أهلية عربية لا تنتهي… فالطائفية ستنقلب غداً إلى مذهبية، والقومية قد تنقلب إلى عصبيات تستنفر الأقليات العرقية، وستجدها إسرائيل وقوى الاستعمار، قديمه والجديد، فرصة لتصفية القضية الفلسطينية، مستفيدة من انشغال العرب بالقتال ضد الذات.
وختم الإمام المغيّب بالقول: كلنا يعرف بدايات الحرب الأهلية في لبنان، والتي أغرقت الشعبين اللبناني والفلسطيني في سيول من دماء أولئك الذين كان يفترض أن يكونوا رفاق سلاح من أجل تحرير فلسطين، بل وتحرير الإنسان العربي عموماً من أسباب الهيمنة الأجنبية، كما من بطش أنظمته التي تقمعه باسم تحرير فلسطين في حين أنها لا تخدم بسلوكها القمعي إلا العدو الإسرائيلي.. إن الحرب الأهلية في لبنان مرشحة لأن تكون إعلان بداية مسلسل من الحروب الأهلية العربية لا تنتهي، وخلالها تصبح إسرائيل إمبراطورية تهيمن على المنطقة جميعاً بتواطؤ علني أو ضمني مع بعض أنظمتها.
والتفت إلينا يبلغنا ما سوف يكون وصيته الأخيرة: «احفظوا لبنان تحفظوا فلسطين. مَن يفرّط بلبنان سيتحمّل المسؤولية عن حرب أهلية عربية ستمتد بامتداد الأرض العربية».
[ [ [
اليوم نعيش بعض ما حذر منه الإمام موسى الصدر: حروب أهلية مشتعلة أو تحت الرماد تلتهم قدرات العديد من الأقطار العربية وتدمر آمال المواطن العربي بمستقبل يليق بكرامته كإنسان، بينما إسرائيل تفرض شروطها على العرب جميعاً، وأولها أن ينسوا أمر فلسطين، وأن يصدعوا لأوامرها باعتبارها السيد المهيمن على هذه المنطقة الغارقة في دماء أبنائها والتي تاهت عن الطريق إلى غدها.
أما أحوال لبنان الذي نبّه الإمام الصدر إلى ضرورة رعايته وحمايته وتأمين أهله من مخاطر الفتنة فقد وصفها اللواء جميل السيد، أمس، بدقة وإن بنبرة عالية: أجملَ خطايا النظام والطبقة السياسية جميعاً، بالرئاسات والسلطات والأجهزة المختلفة، بما في ذلك التمثيل الشعبي والقضاء والأجهزة الأمنية، منتهياً إلى إطلاق حكم مبرم على هذا النظام الفاسد من قمته وحتى آخر دائرة في آخر إدارة فيه. وبالطبع فإن جميل السيد لم يكتشف البارود، ولكنه تحدث عن هذا النظام بوصفه كان ـ ولفترة طويلة ـ من حراسه، ولهذا فهو يعرفه من الداخل.
ها هي الطائفية تنقلب إلى مذهبية.. والنظام الانتخابي مصدر للتزوير الشرعي، والرئاسات صفقات محلية ـ عربية ـ دولية. المواطن يبيع صوته بوعي: إنه الآن ينصر مذهبه ويقبض نقداً وبالدولار.
كيف إذن ستولد حكومة وحدة وطنية من قلب الانشقاق الخطير الذي صدّع صفوف «الوطنيين» وهم هم أنصار الدولة وحماتها لو أنهم يملكون القدرة على مواجهة عتاة الطائفيين والمذهبيين الذين أمسكوا الآن بزمام السلطات جميعاً، الرسمية والشعبية، وتوفرت لهم أسباب الدعم والحماية عربياً وإقليمياً ودولياً؟!
لم تعد التمنيات تكفي، ولا النيات الحسنة. لقد احتلت الغرائز الشارع فبات مستحيلاً التمييز بين الصح والغلط، لأن الغرض يعمي العيون ويضل الأفكار.
ولا يعرف أحد متى سيسمح بولادة الحكومة الجديدة، وبمن، وكيف، لأن إسرائيل باتت أقوى بكثير من العرب مجتمعين، ولأن النظام العربي «جندي فار» من ميدان المواجهة، يساوم بالأرض على استمراريته، ويساوم بقضاياه المقدسة، وأولها فلسطين على سلامة القائمين بالأمر والذين يختصرون بلادهم بأشخاصهم؟
اليوم، نفتقد الإمام موسى الصدر أكثر مما افتقدناه طوال الثلاثين الماضية: لقد نبّه وحذر ودق أجراس الخطر فدفع الثمن حياته، مع رفيقيه، ومضى «النظام العربي» في طريقه يدمّر مقومات الأمة بأوطانها جميعاً، بينما إسرائيل تعجز عن حصاد الجوائز المجانية التي تنهال عليها من الجهات جميعاً.
تحية للإمام المغيّب، من وطن على طريق التغييب.

Exit mobile version