طلال سلمان

تحرير بعد رفيق حريري غياب عيد

تطل علينا الذكرى الخامسة للتحرير ولبنان على غير ما كان يتمنى أهله بعد الانتصار المبين الذي تحقق بدماء المجاهدين في المقاومة يعززها تماسك وطني في الداخل شعباً وجيشاً وموقفاً رسمياً.
.. وكان النصر باهراً حقاً، وفر للبنان شرف خرق الاستحالة، ممهداً لفتح صفحة جديدة في التاريخ العربي الحديث بإجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن معظم أرضه المحتلة بالمواجهة المفتوحة وقد توفر لها غطاء من الشرعية الوطنية والعربية والدولية كان بين عناوينه تفاهم نيسان 1996.
على أن يوم »الاثنين الأسود« في الرابع عشر من شباط الماضي دهم لبنان واللبنانيين (ومعهم العرب جميعاً والعالم كافة) بجريمة زلزلت المشاعر والمفاهيم، إذ غطت الدماء المسفوحة غيلة للرئيس الشهيد رفيق الحريري المشهد جميعاً فكادت تحجب صورة النصر البهي، الذي كان له إسهامه المميز فيه، من موقعه داخل السلطة وخارجها، وفي لبنان كما على المستوى الدولي.
بل إن تلك الجريمة النكراء قد تسبّبت بتداعياتها الخطيرة، وطنياً وعربياً، في طمس الكثير من الدلالات، وتبديل معنى العديد من الكلمات والشعارات التي كان لها شيء من وهج القداسة.
تكفي المقارنة بين حالة اللبنانيين عند إنجاز النصر بالتحرير، وحالتهم بعد الاغتيال الذي هزهم من الأعماق وأنذر بتبدل جوهري في المواقف والعواطف، إذ بينما كلمة »الاحتلال« تذهب بمعناها مباشرة إلى العدو الإسرائيلي، صيّر الخطأ السياسي »الوجود السوري« »احتلالاً«، وصيّر الخروج السوري من لبنان »جلاءً« و»تحريراً« واستعادة للسيادة والحرية والاستقلال، بل وأساساً للوحدة الوطنية بطبعة جديدة غير ما كنا عرفنا وألفنا من مكوناتها.
لقد غرق الناس في مأساة الفقد حتى نسوا الفرح، خصوصاً أن جريمة الاغتيال بكل ما سبقها ومهّد لها من ارتباك سياسي بلغ ذروته بخطيئة التمديد قد أحدثت انقلاباً شاملاً في المفاهيم سحب نفسه على الحياة العامة بمختلف تجلياتها التي تطالعنا الآن عبر »الانقلابات« والتحالفات الطارئة والمستجدة في الانتخابات، مما كان خارج دائرة التوقع ولو في الخيال!
سقطت، فجأة، الفواصل والفروق بين القوى السياسية التي كانت ذات يوم مقتتلة حول »النظام« و»السلطة« وهوية لبنان والتزامه بموجبات دوره القومي..
وفرت دماء رفيق الحريري شهيداً فرصة التلاقي، ثم التحالف، بين مَن واجهوا بعضهم البعض بالسلاح، قبل حين، وأطلقت موجة من الرغبة في الصفح والمصالحة والعفو، وأسقطت »الحرم« الذي كان يشكل حاجزاً نفسياً بين الذين حملوا السلاح أو دعموا مَن حمله لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وبين مَن كان أدين بجرم التعاون مع العدو، باعتبار أن ذلك كله بات من الماضي، وأن »الوحدة الوطنية« الجديدة مفتوحة الذراعين والقلب للجميع… باستثناء »عملاء السوريين« و»رجال الأجهزة في السلطة الأمنية«.
وتوفرت الفرصة للوصاية الدولية التي برّرت نفسها بالجريمة النكراء لتفرض الخروج السوري بطريقة لم يكن ليقبل بها اللبنانيون لهذا الجيش الشقيق الذي قاتل معهم ضد الاجتياح الإسرائيلي وقدم الشهداء على أرضهم توكيداً لوحدة المصير..
… ودهمت الانتخابات النيابية اللبنانيين، بموعدها الإجباري وقانونها الأعرج الذي يظل »أرحم« من قانون الستين المجافي لاتفاق الطائف نصاً وروحاً، فإذا جريمة الاغتيال تظلل تحالفات
مَن كانوا مختلفين، وتقرّر النتائج بالتزكية حيثما ارتفعت صورة رفيق الحريري أو صورة نجله سعد الذي تقدم محكوماً بمشهد الدم المُراق غيلة، ومقتدراً على إسقاط الحرم على مَن يعتبرهم شركاء في التحريض على اغتيال والده الشهيد ورفاقه الأبرار.
تهاوت السلطة وكأنها من كرتون، ملحقة الأذى بكل من والاها أو اتصل بها.
ولولا حصانة المقاومة المكتسبة بدماء مجاهديها الأبرار، ووعي قيادتها التي أثبتت أهلية استثنائية، وأحبطت مع عدد من القيادات الوطنية محاولات خبيثة للإساءة إلى صورتها الجامعة وهي المتصلة بشرف الوطن ومواطنيه عبر استخدام »تظاهرة الوفاء لسوريا وجيشها« مادة للتشهير، بينما كان السيد حسن نصر الله يقدم واحدة من أنصع الشهادات حول دور الحريري في حماية المقاومة كشرط لمناعة لبنان وتوكيد هويته العربية عبر وحدته الوطنية.
* * *
في العيد الخامس للتحرير تبدو المقاومة مستهدفة ليس فقط في رصيدها الهائل، بل في دورها الوطني في الحياة السياسية.
فحرب التدخل الدولي صنفت المقاومة »ميليشيا« لا بد من تجريدها من السلاح، وهو مطلب إسرائيلي بامتياز..
وكثير من المتضررين من رصيد المقاومة القابل للتثمير في دور سياسي سيكون له تأثيره على التوجه العام »للنظام الجديد«، يريدون »التحرر« من هذه المؤسسة الجهادية الكبرى التي تشكل ضمانة ضد الانحراف بلبنان نحو الالتحاق بأنظمة الصلح المنفرد، بذريعة أن لبنان قد تحمّل ما يكفيه ولا بد له أخيراً أن يرتاح.
لكن المواطن الغارق في أحزانه وفي بؤس أوضاعه لن يفرّط بالذين منحوه شرف الانتماء إلى هذه الأرض بدمائهم، والذين يندرجون في قافلة عظيمة من الشهداء الأبرار، يتصدّرها الآن رفيق الحريري.
وبقدر ما سيكون رفيق الحريري في صورة لبنان الغد، فإن هذه الصورة لا يمكن أن تكتمل من دون المقاومة التي أضافت إلى لبنان رصيداً متوهجاً جعله في عيون أهله، كما في عيون العالم، أكبر ألف مرة من واقعه، وأقوى ألف مرة من إمكاناته الذاتية.
ولبنان الجديد سيحمل بعض ملامح الشهداء جميعاً، الذين حفظوا عروبته ووحدته وكرامة الإنسان فيه، التي من دونها جميعاً لا سيادة ولا حرية ولا استقلال.. قبل الانتخابات وبعدها.

Exit mobile version