طلال سلمان

تجليات ديموقراطية لبنانية في انتخابات مجالس بلدية

لا بأس من »إجازة قصيرة« مع بعض تجليات »الديموقراطية اللبنانية« كما تبدت عبر لطائف »المعارك« الضارية في الانتخابات البلدية، التي يمتد مسلسلها المثير بامتداد شهر أيار الجاري، تخفيفاً من ضغط المهانة التي نستشعرها جميعاً كعرب، وكبشر نتيجة ما نشهده من ضروب الإذلال وتحقير إنسانية إنساننا في العراق بعد فلسطين، على يد جيوش »الديموقراطية بالاحتلال« الأميركية منها والإسرائيلية.
؟ أولى التجليات ان الانتخابات البلدية، مثلها مثل الانتخابات العامة، لا تخل بالسياق العام للسياسات المعتمدة، حتى إذا اختلفت التحالفات فافترق »رفاق السلاح« وتصادم القائلون بوحدة المسار والمصير، وتوزع المتلاقون تحت راية العنفوان ايدي سبأ..
فالانتخابات البلدية ليست خارج السياسة تماماً، والطابع العائلي الذي يسمها لا يخرجها من الإطار الطائفي بل يؤكده فيها، وإن مموهاً بالعشائرية التي أعاد احياءها الضعف المستشري في الحياة السياسية برموزها عموماً، أحزاباً وتيارات وشخصيات.
من هنا تهافت المسألة الإنمائية وضعف حضورها في »برامج« اللوائح المتنافسة، والتي غالباً ما تنتجها ائتلافات اضطرارية بين متخاصمين سابقاً، أو تحالفات بالاكراه بين مختلفين قبل »المعركة« وبعدها، وبالتالي فإن حديث »الإنماء« يأتي عرضاً كرشوة وهمية للناخبين الذين لن يتوقفوا بدورهم أْمام الشعارات، بل ستحركهم الرغبة في »كسر الخصوم« أو في احتلال موقع الوجاهة بين العائلات…
ونادرة هي الحالات التي خيضت فيها معركة البلدية بشعارات إنمائية، وببرامج معلنة ومحددة وقابلة للتنفيذ فعلاً، ومن ثم تعطي للمعركة طابع التسابق على خدمة المدينة/ البلدة/ القرية، بعيداً عن الصراعات العائلية المغلفة بالحزبيات، قديمها والحديث، والتي غالباً ما تسببت في مزيد من الاهمال، بالنكاية أو بدافع التشهير بالخصوم، ولو على حساب »الصالح العام«.
؟ ثاني التجليات يتمثل في اختلاف مسلك السلطة بين منطقة وأخرى، وفقاً لمواقع المناطق في النظام اللبناني الفريد، بالامتيازات المحفوظة لبعضها لأسباب طائفية ثبتتها الممارسة على اختلاف العهود.
فجبل لبنان عموماً يحظى بمعاملة استثنائية تجعل الانتخابات فيه أقرب إلى »الممارسات الديموقراطية« ولو »داخل الطائفة« مما هي عليه في أي منطقة أخرى من لبنان.
ويمكن القول ان السلطة تعامل »الجبل« بكثير من الرعاية والحذر، تذكر بما كان يحظى به من امتيازات منذ عهد الإمارة المنفصلة المتصلة بالسلطنة ثم عهد المتصرفية والقناصل فعهد »دولة لبنان الكبير« والانتداب الفرنسي والتي تواصلت في العهود المختلفة في »دولة الاستقلال«.
لكأنما »الديموقراطية«، بمعناها اللبناني الفريد، امتياز خاص لجبل لبنان بثنائيته الشهيرة.
؟ ثالث البديهيات ان العاصمة بيروت يجب اخضاع واقعها الديموغرافي لمقتضيات الوحدة الوطنية، وبالتالي فلا بد من تثبيت التوازن بالمناصفة في المجلس البلدي ولو »مفروضة«، حتى لا يهتز الأساس الذي قامت عليه التسوية السياسية في الطائف… ولا بأس هنا من ان ينجح »فريق« بأصوات »الفريق الآخر«، بينما تحتدم الاحتجاجات على ان ينجح مرشحون للفريق نفسه في مناطق أخرى بأصوات »الفريق الآخر«. المهم ان تبدو بيروت عاصمة للوحدة الوطنية، ولو في صورة مركبة.
تتلاشى الأحزاب، كمؤسسات سياسية، في معركة لا أثر للصراع السياسي فيها… وتتجسد المفارقة، نافرة، بين مطالبة الأحزاب العقائدية، اليسارية بمجملها، بالتوازن الطائفي في المجلس البلدي للعاصمة، مستخدمة رصيدها »التاريخي« أيام العمل الوطني ومسيراته ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي بديلاً من أصوات ناخبيها، وهم قلة لا تستطيع التأثير لا على التحالفات »من فوق« ولا على النتائج. فالتوازن الطائفي أهم من أي مضمون سياسي.. والائتلاف من فوق يتطلب التضحية بالشعارات العقائدية، لأنها قد تبدو في العين الطائفية انفصالية!
يتصل بذلك ان انتخاب أي مجلس بلدي، وبأية أكثرية من الأصوات، يفترض ألا يؤثر على دور المحافظ، الذي يتوجب ان يبقى »قوياً« للتخفيف من الآثار الضارة للديموقراطية على الوحدة الوطنية!
؟ رابع التجليات: ان التساهل الاضطراري حيث لا قدرة على السيطرة المطلقة، يتطلب تشديد القبضة في دوائر اللون الواحد لضمان الأكثرية المطلقة، بحيث لا يكون ثمة مجال لبدعة مثل »الثلث المعطل«..
فالجبل غير بيروت… والجبل وبيروت غير البقاع، والبقاع غير الجنوب، والشمال مختلف عنها جميعاً، وبالتالي فلا بد من »ترتيبات« خاصة، في الأمن، تتوازى مع الاعتبارات السياسية والتصنيفات المعتمدة والتي ما زالت تعامل الاطراف »كملحقات« تستطيع السلطة ان تتنمر فيها، مع مراعاة ان تأتي النتائج مقبولة ومفيدة في »التوازن العام«… فالمعارضة امتياز لأصحاب الامتيازات، ولكنها في الملحقات تمرد مرفوض وترف لا تطيقه السلطة ولا تقبل به!
؟ خامس التجليات: ان الطوائف ليست واحدة في عين السلطة..
صحيح ان لكل طائفة »استقلالها الذاتي« في انتخاب بلدياتها، لكن لكل استقلال ضوابطه حتى لا تكون فتنة، ولا تكون فوضى،… ففي الملحقات تسقط الامتيازات ويتوجب على الطوائف ان تنضبط داخل »المصلحة العليا« التي تحددها »اليد العليا« المسؤولة عن كل أحد وعن كل شيء في كل مكان وأي مكان.
؟ سادس التجليات: تكشف الانتخابات، حتى على المستوى البلدي، ان السلطة ليست أداة القمع الوحيدة، أو أداة التحكم الوحيدة بالعملية الانتخابية.فأحزاب الطوائف أداة قمع أيضاً… و»كلمة السر« تسري في المناطق الصافية في لونها الطائفي، فتقرر النتائج، وتتسع الطرق أمام »البوسطات« والجرافات، وتنكمش الديموقراطية في تلك المساحة الضيقة من الخلاف بين أحزاب اللون الطائفي الواحد.
وهكذا فإن لكل منطقة أو جهة »ديموقراطيتها« الخاصة المتناسبة مع لونها الطائفي والمذهبي… والديموقراطية الخاصة تنتج سلطة خاصة.
والسلطة المركزية تصبح كأنها راعية »الديموقراطيات الخاصة« لمجمل الطوائف، الأقوى فالأقوى… أما البلديات ومشاريع الإنماء والتطوير فعليها ان تنتظر »التطبيق الكامل لاتفاق الطائف«، أو انتصار قضية العلمانية، لكي تقوم الدولة الديموقراطية في لبنان.
في البلديات كما في النيابات: معطلات الديموقراطية هي هي.
لكن الانتخابات تظل، من حيث المبدأ، فرصة لتنفيس الاحتقان، وفسحة لكي يمارس اللبناني هذا الفولكلور الديموقراطي الفريد في بابه، والذي يسليه ولو لأيام عن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تتهدده في يومه وفي غده بكل ما تستولده من أزمات حياتية تدفع بشبابه الذي لا يجد فرص عمل إلى الهجرة إلى أي مكان.
انها فرصة للتعويض عن غياب السياسة بلعبة تشبه السياسة في شكلياتها ولكنها تظل بعيدة عن ان تكون مناسبة للتغيير، سواء في العقل أم في أساليب العمل، وبالتالي في أوضاع البلديات التي ستظل لأمد بعيد أسيرة التصنيف »التاريخي« بين »ممتازة« و»متميزة« وملحقات…

Exit mobile version