طلال سلمان

تاريخ ما بعد مذبحة

لم يذهب دم لبنان هدرù،
وليس من المبالغة القول إن دماء الأطفال والنساء والعجزة والرجال الذين قضوا في مذبحتي الخميس الربيعي الحزين، في قانا والنبطية، قد انتصرت على »السيف« الإسرائيلي المعزز بالحماية الأميركية المطلقة.
لقد كسب شمعون بيريز »نقطة واحدة« في آخر استطلاع للرأي أجري في إسرائيل، لكنه خسر »الحرب«، وخسر معها الكثير من غنائم »السلام« الذي استولد بعملية قيصرية تشابه الاغتصاب فجاء »أشوه« وغير مكتمل النمو بحيث يتعذر استبقاؤه حيù بجرعات أوكسجين »خارجية«.
ولعل تكثيف المساعي الدولية لوقف إطلاق النار في لبنان يستهدف استنقاذ »الثمرة المرة« لهذا »السلام« الذي يحمل بذور موته بين جنباته، أي الاتفاق الفلسطيني الذي يترنح الآن متهالكù ومهددù بالسقوط المدوّي الذي سيكون له ما بعده أردنيù، حيث تتعالى موجة الرفض، ومصريù حيث تنتعش الكرامة الوطنية الجريح بالنجيع اللبناني الذي يغطي وجه العرب كلهم الآن.
أما الرئيس الأميركي بيل كلينتون فلعله يرى نفسه رابحù عبر تأمين الفوز لصديقه بيريز »المسالم« في معركته الانتخابية، من دون تفوق كاسح ينصِّبه زعيمù لإسرائيل، لكن الولايات المتحدة الأميركية خسرت مع بيريز »المحارب« الكثير من مكاسبها »السلمية« في هذه المنطقة، ومن رصيدها الدولي الذي تعاظم في هذه المنطقة وعلى حسابها بشكل استثنائي، والذي يبدو الآن مهددù في حجمه كما في فاعليته.
يكفي أن نتملى المشهد الذي ستكون دمشق اليوم مركزه لنتبين حجم الخسائر التي مُنيت بها إدارة كلينتون بداية، ثم إسرائيل بيريز المفجوعة بنتائج حربها الشرسة التي ما تزال تحظى بتأييد ثمانين في المئة من »شعبها« الذي ما زال يفترض أن القتل هو أقصر الطرق إلى »السلام« مع عرب نهايات القرن العشرين.
اليوم سيتلاقى في دمشق ولديها أربعة وزراء خارجية لأربع من الدول الكبرى، الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وإيطاليا وروسيا، في مسعى معها ومع لبنان مباشرة وعبرها لوقف إطلاق النار، واستنقاذ »تفاهم تموز 1993« الذي امكن لوارن كريستوفر ان ينجزه وحده بالهاتف، قبل ثلاث سنوات موفرù باب النجاة لصديق واشنطن الراحل اسحق رابين.
ان قمة شرم الشيخ التي قاطعها لبنان وسوريا، والتي بلغ الصلف بمنظميها ان يقولوا بلسان راعيها الأميركي، قبل أيام قليلة: »انهم في بيروت ودمشق يعرفون عنواننا وأرقام الهاتف، أما إذا كابروا فلم يشاركوا فعليهم ان يتحملوا النتائج«،
ان قمة شرم الشيخ هذه على باب دمشق وبيروت الآن (وضمنù طهران العاصمة التي كان التفكير، ولعله ما زال قائمù، في حجم الضربة التأديبية التي ستوجه اليها)،
لقد ارتدت تلك القمة التي ارتُجلت ارتجالاً، وانعقدت قسرù، وأُتي إليها بالعرب مخفورين بموجب مذكرات إحضار، على الداعي الأميركي اليها وعلى من كانت على نيته ومن أجله، شمعون بيريز.
وفي القاهرة بالذات، وعشية المذابح الاسرائلية التي التهمت بضع مئات من الأطفال والنساء والرجال في قانا والنبطية، أطلت نُذر التمرد على متابعات شرم الشيخ، فلما جاء الخميس الحزين بشلال الدماء فيه كان بمثابة رصاصة الرحمة على ذلك المؤتمر الذي تبرع للعرب بسكين من أجل ان يذبحوا أنفسهم بها لحساب اسرائيل وحلم شمعون بيريز بشرقه الأوسط الجديد.
وفي المشهد الدمشقي، كما سيتبدى هذا اليوم، ستكون أوروبا قد استعادت بعض دورها، وعادت طرفù أساسيù في »العملية السلمية« برمّتها، وليس في تفصيل مهم لكنه لا يشكل اساس الموضوع، مثل وقف الحرب الاسرائيلية على لبنان،
يكفي ان نرصد حجم التحول عبر موقف بيريز من المبادرة الفرنسية: فلقد بدأ برفضها كلية، موجهù ما يشبه الإهانة الى الرئيس الفرنسي جاك شيراك ووزير خارجيته دو شاريت، محددù »الوسيط« المقبول لديه، ادارة كلينتون وحدها، ثم اضطر الى »الاعتراف« بها ولو كمساهمة ثانوية، لينتهي الى التسليم بجديتها بعدما استقطبت الترحيب اللبناني والسوري والقبول الإيراني والاحتضان الأوروبي والاعتراف الأميركي بضرورتها.
اليوم، وفي وهج الدم المراق في لبنان، ظل للموقف الفرنسي شرف السبق، لكن معظم المواقف الأوروبية قد جارته، ولعل بعضها جاوزه في توصيف الحرب الاسرائلية القذرة ربما لأنه متخفف من أعباء الوسيط (السويد، مثلاً).
ان لبنان في ضمير العالم كله، اليوم.
ولقد نجح الحكم فيه، برئيسه الياس الهراوي ورئيس حكومته رفيق الحريري ووزير خارجيته فارس بويز، متكئù على الصمود الباسل للمقاومة والتضامن الوطني الشامل، في ادارة العملية السياسية عربيù ودوليù، بالاستناد الى الدعم المفتوح من القيادة السورية، حتى جاء شلال الدم فبدل الموقف تبديلاً جذريù موفرù لقضية لبنان تأييدù دوليù طالما افتقده في سنوات المحنة الطويلة التي كانت من صنع اسرائيلي في اغلب الاحيان.
لقد خسرت اسرائيل الحرب.
لكن لبنان، ومعه سوريا، لم يربح تمامù معركة السلام بعد.
ولعلنا الآن نعيش ساعات فاصلة يتقرر فيها مصير »العملية السلمية« برمتها،
فباب النجاة الجديد الذي يُطلب الى دمشق المساعدة على فتحه، بالتنسيق الكامل مع لبنان، لن يكون مخصصù لاستنقاذ شيمون بيريز وانتخاباته، ولا طبعù قمة شرم الشيخ ومتابعاتها،
ان صيغة مجددة لمؤتمر مدريد تظهر ملامحها في الأفق،
وسيكون لصمود لبنان العظيم، وللمقاومة بطليعتها »حزب ا”« ومجاهديه الشجعان، ولحكمة دمشق وعدم تعجلها، وللإفاقة الاوروبية (ولو متأخرة) لدورها في المنطقة، فضل تصحيح المسار من »سلام افضل منه الحرب« الى تسوية قد تبدو مقبولة في هذه اللحظة السياسية بالذات.
وتحية للشهداء الذين قلبوا بدمائهم المعادلة الظالمة واستولدوا بتضحياتهم نقطة تحول قد تكون بداية لتاريخ جديد لهذه المنطقة ذات الأهمية الاستثنائية في العالم كله.

Exit mobile version