طلال سلمان

بين قمتين متنبي

فضحت «القمة الثانية للدول العربية مع دول أميركا الجنوبية» القمة العربية الحادية والعشرين، خصوصاً أنهما عقدتا متعاقبتين زمنياً، الاثنين والثلاثاء، وفي قاعة واحدة من قاعات فندق شيراتون ـ الدوحة في قطر، بعد تبديل في اللوحات ولغة الشعارات..
لقد كشفت القمة الثانية القمة الأولى في هزال خطابها السياسي كما فضحت هشاشة العلاقات المضطربة التي تسود العلاقات بين الإخوة ـ الأعداء.
من باب التذكير، لا أكثر، نشير إلى أن المسؤولين من القادة العرب كانوا هم هم في القمتين، بكل ما هو معروف من سلوكياتهم التي يتداخل فيها الشخصي مع العام، وعن شرعياتهم، خصوصاً أن بينهم عدداً ملحوظاً من المنتمين إلى أسر حاكمة يتوارث أفرادها العرش كابراً عن كابر.. والنسب هو الأصل والأساس ومصدر الشرعية، وبغض النظر عن الأهلية والمعاصرة والمستوى العلمي والوعي بخطورة الاقتصاد، مثلاً، وتأثيره الحاسم في عالم القرن الحادي والعشرين..
وأما القادة الآتون من بعض أهم دول أميركا الجنوبية، فإنهم جميعاً في مواقعهم نتيجة انتخابات ديموقراطية مشهودة، وعبر منافسات حادة، وعلى قاعدة صلبة من البرامج السياسية ـ الاقتصادية التي تثبت الأهلية والاستعداد بالكفاءة لمعالجة مشكلات البلاد، وهي «نامية» أيضاً بمعايير التقدم الدولية، وإن كانت تسبق بلادنا ـ والأغنى قبل الأفقر ـ بمراحل واسعة.
فأما القمة العربية التي استٌولدت قيصرياً واختُتمت عجائبياً بنجاحها في تخطي الانفجار من الداخل، ودائماً باللجوء إلى القاعدة الذهبية ـ الأبدية عربياً ـ «سيروا بخطى أضعفكم» ولو بكلفة تتمثل في التخلي عن الأهداف المرجوة من انعقادها، والتعزية باستنقاذ الحد الأدنى في المواقف ولو على حساب «القضية» التي تشكّل مبرر التوافق والتلاقي، فقد نجحت فانعقدت واختتمت… بسلام!
و«السلام» يعني تهدئة الخصومات بأسبابها المتعددة التي يختلط فيها الشخصي بالعام، والسياسي المتصل بتركيبة النظام مع السياسي العام بأبعاده الدولية والإقليمية، الاقتصادية والاجتماعية، في انتظار أن يحلها الزمن أو يوفر فرصة أفضل في غد لتسويتها أو تصفيتها في الغرف المغلقة.. وبغير شهود!
من هنا فإن معظم الخطب في القمة الأولى (العربية) كانت أقرب إلى المجاملات والمواقف المبدئية التي لا يمكن الاختلاف حولها.. بمعنى أن الكثرة الكاثرة من خطباء الجلسة الافتتاحية قد ردّدوا الشعارات والمبادئ العامة والنوايا الطيبة والعواطف الحارة والحرص على القضية الفلسطينية، لا فرق أن يكون ذلك بالتفاوض أو بالصمود أو بالإرجاء أو بالاعتماد على حسن نوايا الإدارة الأميركية الجديدة… أو على تداعيات الأزمة الاقتصادية الدولية، أو على تطرف الشارع الإسرائيلي الذي تجاوز كل السقوف المعروفة سابقاً، بحيث تستطيع حكومة نتنياهو ـ ليبرمان ـ باراك الادعاء أنها «معتدلة» وتحسن قراءة خريطة طريقها في فلسطين بعد إخلائها من شعبها الفلسطيني تماماً!
.. وأما الخطب في القمة الثانية فكانت أقرب إلى البرامج أو الخطط المدروسة لوجوه التعاون الممكنة ومجالاتها المتاحة والمفيدة للطرفين.. برغم اللمسة العاطفية التي عبقت بها مقدمات الخطب، والتنويه ـ بغير مبالغة ـ بتحدر أعداد ملحوظة من أبناء دول أميركا الجنوبية من أصول عربية، أبرزها السوري واللبناني ثم الفلسطيني (وإن كان معظم هؤلاء قد «فقدوا» أبناءهم، بمعنى أنهم عجزوا عن تثبيت عروبتهم لغة، في البداية، ثم اهتماماً وسلوكاً، في الشباب الجديد المنتمي كلية إلى بيئته (الوطنية) الجديدة، ليس فقط لأسباب عملية، بل أيضاً وربما أساساً بسبب ما يسمعه من أهله عن الأوضاع المحزنة في بلاد الآباء والأجداد التي جاءوا منها…
في الشكل الذي يعادل المضمون، أحياناً: بين القادة الذين جاءوا من أميركا اللاتينية رئيستان لدولتين (الأرجنتين وتشيلي)، في حين أن الوفود العربية الرسمية جميعاً لم تكن تضم بين أعضائها إلا سيدة واحدة برتبة وزير، إذا ما نحن تجاوزنا الملحقات الصحافية أو الزميلات الصحافيات والسكرتيرات الناشطات..
أما في المضمون فإن السيدتين الرئيستين هما شخصيتان قياديتان بارزتان، كل في بلادها، ولكل منهما تاريخ «نضالها» السياسي في بلادها، ثم أنهما مثقفتان ومتمكنتان من موضوع الحديث، خطياً وشفاهة، ومع احترام بالغ للأرقام والمعلومات التي لا تحتمل فصاحة الديباجة أو التقديرات والتخمينات التي تعوّد على إطلاقها بعض القادة العرب مشفوعة بالعبارات الناقضة للجهد مثل «بعون الله» و«بحمد الله»، فضلاً عن اللازمة التقليدية «إن شاء الله» والتي تتردد في مؤتمرات القمة بقدر ما تتردد في المساجد..
من باب الطرافة التي لا أفترض أنها تسيء إلى جدية الاستعدادات القطرية، وحسن الإعداد وكرم الضيافة، لا بد من التنويه بأن الشعار الجميل للقمة الحادية والعشرين قد تضمن بيت الشعر الشهير لشاعر العرب الأكبر أبي الطيب المتنبي والقائل «الخيل والليل والبيداء تعرفني، والسيف والرمح والقرطاس والقلم»!
في الروايات إن هذا «البيت من الشعر» كان السبب المباشر في الاغتيال الملتبس، لأن قائله دعاه إلى المبارزة لإثبات صحة معرفته باستخدام السيف والرمح… فكانت القاضية! وقيل بعدها إن الشاعر العــظيم قد ذهب ضحية… عبقريته الشعرية!
… ومبروك للدوحة نجاحها، وبقي على أميرها الداهية ومعاونه الذي تعلّم منه السحر، أن يفيدا من سنة طويلة في الرئاسة… المستحيلة!

Exit mobile version