طلال سلمان

بين رئاسة بلدية و«رئاسة عالم» وخسارة صديق تواطو على شقيق

نحمده، سبحانه وتعالى، على كريم رعايته هذه القبائل اللبنانية العريقة في إيمانها بالديموقراطية، وتمكينها من إنجاز الجولة العسكرية الأخيرة من الانتخابات البلدية، ومعها «المخاتير»، بخسائر محدودة في الأرواح والممتلكات والمعنويات، تحت أو ربما برغم الرعاية الاستثنائية للطبقة السياسية لهذه «الحرب» الدورية التي يعيش اللبنانيون في ظل هواجس القلق من مخاطرها أياماً طويلة، مرة كل ست سنوات.
لقد تكاملت صورة النظام الديموقراطي الفريد في لبنان الجميل:
÷ الرئاسات موحدة في الموقف الرسمي على اختلاف التوجهات، فيما بينها، وهي في مواقعها وفي مقارها الرسمية أو الشخصية، لا فرق، تستقبل الضيوف وزوار الداخل، وتتركهم يضربون أخماساً بأسداس في قلب حيرتهم للتعرف إلى «موقف لبنان الرسمي» من أية قضية مطروحة، سواء أكانت داخلية أم إقليمية أم دولية…
÷ المجلس النيابي يواصل غيابه، كمؤسسة وإن حضر رئيسه بالصوت والصورة، انتظاراً لحضور حكومة الاتحاد الوطني بموازنتها التي تنذر الألغام المدسوسة فيها بتفجيرها من داخلها… وللتعذر، فلسوف يتم ـ على الأرجح ـ اعتماد القاعدة الإثني عشرية، على غرار أعوام التعارض والتجافي والتخاصم التي بلغت ذروتها بعد الانتصار على الحرب الإسرائيلية في تموز 2006.
÷ أما الحكومة فرئيسها في طائرة لا تكاد تهبط حتى تقلع من جديد إلى أنحاء مختلفة من هذا العالم الواسع، أحياناً بصحبة وفد رسمي لجب، وأحياناً بوفد مختصر من الأصدقاء الذين لا تعرف لهم وظيفة أو دور رسمي محدد…
وأما الوزراء فبعضهم يعمل وكأنه باق أبداً، وبعض آخر يفضل الإرجاء انتظاراً لمعرفة مصير الحكومة المهددة من داخلها بأكثر مما يهددها خارجها، فإذا ما تلاقى الجميع في القصر الجمهوري ظهرت صورتهم مبتسمين، مستبشرين، حتى إذا ما تم اللقاء في السرايا الحكومية غابت الابتسامات ليحل محلها الوجوم وقد احتل الوجوه وأركان القاعة بالطاولة الدائرية فيها…
[ [ [
بالمقابل، كانت ترتسم للبنان، على المستوى الدولي، صورة مشرقة تختلف جملة وتفصيلاً عن صورة الداخل، لا سيما خلال شهر أيار المنصرم، وقد تولى فيه «رئاسة العالم» عبر تسلمه مقعد الرئيس في مجلس الأمن الدولي.
ولقد تزامن عدد من المصادفات القدرية لإبراز صورة لبنان كمركز للتوفيق بين العرب، ثم بينهم وبين «حلفائهم التاريخيين» من دول عدم الانحياز، ثم للإفادة من ضيق العديد من الأوروبيين بتعنت إسرائيل وتحديها الإرادة الدولية وإيغالها في التنكيل بالشعب الفلسطيني وإذلاله بالحصار والتجويع، وقبل هذا كله ومعه إصرارها على استمرار رفضها إخضاع أنشطتها النووية لرقابة وكالة الطاقة الدولية.
وهكذا أمكن تحقيق نصر دبلوماسي باهر على إسرائيل عبر تصويت الجمعية العمومية لوكالة الطاقة الدولية وبأكثرية 189 صوتاً، وذلك عبر إلزامها السماح لمفتشي الوكالة بالكشف على مفاعلها النووي في ديمونا والتحقق من مخزونه الذي يكفي ـ إذا صدقت التخمينات ـ لتدمير نصف العالم على الأقل.
على أن هذا النصر المهم لا يمكن أن يغطي على الفضيحة المدوية المتمثلة في استمرار تجاهل النظام العربي للحرب الإسرائيلية المفتوحة على شعب فلسطين، (قبل لبنان وبعده)، ولا سيما منه المليون ونصف المليون من الفلسطينيين الذين يتعرضون لموت بطيء عبر حرب التجويع بالحصار المحكم على غزة، والذي يشارك فيه بعض هذا النظام العربي في حين يغمض عينيه عنه البعض الآخر منه.
وليست «قافلة الحرية» التي انطلقت بعض سفنها من تركيا ثم انضمت إليها سفن أخرى من بعض أنحاء أوروبا، إلا المثال الصارخ على التخلي العربي عن أبسط موجبات التضامن مع أهالي غزة، ولو لاعتبارات إنسانية إذا ما نحن أسقطنا من الحساب وشائج القربى وصلات الرحم مع هذا الشعب الذي يقدم كل يوم دليلاً جديداً على صلابة إيمانه بحقه في أرضه واستعداده لأن يفتديها بأرواحه.
إن هذه القافلة التي تضم متطوعين بينهم قلة من العرب وكثرة من الأجانب، فيهم مسلمون ومسيحيون، والتي تتقدم في البحر نحو غزة، برغم التهديدات الإسرائيلية المعلنة والمصورة (المدمرات أمام شاطئ القطاع المحاصر، والاستراحات ـ المعتقلات التي سيحتجز فيها الآتون للتضامن مع شعب فلسطين في غزة!) إنما تعلن ـ مرة أخرى ـ سقوط النظام العربي، سياسياً، فضلاً عن سقوطه أخلاقياً في تعامله مع شعوبه، منذ زمن طويل.
يكفي أن ندقق في الموقف الذي لا يمكن قبوله والذي اتخذته السلطات في قبرص لكي نكتشف تواطؤ النظام العربي مع إسرائيل. فما كان ممكناً لقبرص أن تتخذ مثل هذا الموقف غير الإنساني، والخارج عن المنطقي والمتوقع والمألوف من أبناء هذه الجزيرة الصغيرة التي جمعها بجيرانها العرب ـ عبر التاريخ ـ وشائج قربى وصداقة وحسن جوار ومصالح، لولا أنها تلقت تشجيعاً أو تحريضاً رسمياً من بعض النظام العربي يتكامل مع الضغوط الإسرائيلية (والأميركية) عليها، لمنع القافلة من دخول موانئها، (وهذا عكس ما كان يحدث مع القوافل السابقة)، وتركها في عرض البحر، وفي مواجهة التهديدات الإسرائيلية المعلنة بصور البوارج والزوارق الحربية وهي تستعد للحرب ضد متطوعين في مهمة إنسانية نبيلة.
إن القيمة السياسية والمعنوية للقرار الدولي بإلزام إسرائيل فتح منشآتها النووية أمام مفتشي الوكالة الدولية، تخسر كثيراً من قيمتها أمام تواطؤ النظام العربي على شعب فلسطين وقضيتها التي طالما وصفت بالمقدسة.
إن أهل النظام العربي يكادون، بتصرفاتهم الحمقاء التي لا يكفي الجبن في تبريرها، يتسببون في خسارة العرب وقضاياهم المحقة أصدقاءهم في العالم، الذين وقفوا إلى جانب حقوق شعب فلسطين في أرضه، فكيف لا يقفون ضد محاصرته ومنع الدواء والغذاء وسائر أسباب الحياة عنه؟
ومن حق القبارصة أن يواجهوا العرب بالقول: سائلوا حكوماتكم التي تتواطأ مع إسرائيل على تشديد الحصار، قبل أن تتوجهوا إلينا بالعتاب واللوم والتأنيب… فليس مقبولاً أن نكون أكثر عروبة من العرب أنفسهم (وأكثر فلسطينية من السلطة الفلسطينية في رام الله وهي شريكة في الحصار بالتواطؤ والسكوت عنه، لأسباب تتصل بالصراع على السلطة وليس على… التحرير!).
[ [ [
المهم أن الديموقراطية اللبنانية الفريدة في بابها بخير، وكل جولة انتخابية جديدة تثبت أنها تزداد تجذراً في الحياة السياسية بحيث تكاد الطبقة السياسية تستأصل أية بوادر أو بذور للتغيير والانفلات والتحرر من سجنها المذهّب.
… و«رئاسة العالم» أمر عابر في تاريخ الطبقة السياسية، أما رئاسة البلدية وسائر الرئاسات فهي المطمح والمقصد لضمان المستقبل لوطن حر وشعب سعيد!

Exit mobile version