طلال سلمان

بين خطا تعديل دستور وخطيئة تعديل نهج سياسي

أن يعترض المعترضون على تعديل الدستور لتمديد الولاية او التجديد، فهذا موقف مبدئي لا بد من ان يحظى بالاحترام، خصوصاً حين يصدر عن مرجعيات لها مكانتها او عن ملتزمين بمبادئ النظام الديموقراطي البرلماني او يؤمنون بضرورة الاعتصام بالاصول الدستورية، بمعزل عن الطارئ من الازمات والظروف الاستثنائية…
اما ان يتحول الاعتراض على تعديل الدستور الى مناسبة لتعديل المسار السياسي للبلاد، والتشهير بالثوابت التي اعتمدت كمنهج للحكم منذ ما بعد اتفاق الطائف، فهذا امر آخر: انه مشروع انقلابي يتجاوز شخص رئيس الجمهورية، ليدخل لبنان في نفق مظلم، داخل المخططات الاميركية الاسرائيلية للمنطقة، والتي تتبدى مكشوفة متوهجة بدماء الضحايا في فلسطين والعراق وفي انحاء اخرى من الارض العربية.
فليس ثمة ما يجمع بين الحرص على الدستور وبين المطالبة بإرسال الجيش الى الجنوب، وهو التعبير الملطف او »المهذب« للمطالبة بحل »حزب الله« وتسريح رجال المقاومة، استجابة لدواعي الأمن الاسرائيلي وبخوف من الاتهام بشبهة الارهاب التي ترفعها الادارة الاميركية في وجه كل من ينادي بحقه في ارضه.
كذلك فإن الحرص على الدستور ليس مطلبا تختص به او تحتكره طائفة بحيث لا يجوز الحديث فيه إلا من داخل منطق طائفي محدد.
وبالتأكيد فإن الحرص على الدستور لا يستتبع بالضرورة، ولا يبرر ان تنطلق حملات التشهير بالعلاقة اللبنانية السورية، مع محاولة خبيثة لتصوير الادارة الاميركية ومعها او قبلها الادارة الفرنسية وكأنهما احرص على لبنان وسيادته واستقلاله من اللبنانيين انفسهم، او كأن تدخلهما في الشؤون الداخلية اللبنانية مبرر ومشروع، بينما حديث اي مسؤول سوري عن لبنان تدخل مرفوض بل هو انتهاك للسيادة والكرامة والعنفوان!
* * *
على حين غرّة، أفاقت الطبقة السياسية بمعظمها في لبنان من غيبوبتها الطويلة، وخرجت من »الكهف« الذي تريدنا ان نصدق انها كانت »محتجَزة« فيه، فاكتشفت ان البلاد تكاد تغرق في بحر من الخطايا والاخطاء!! وهكذا باشرت حملة شرسة من اجل استنقاذ الديموقراطية واعادة بناء الدولة على أسس من الطهارة والشفافية، ومنع اللعب بالدستور، واسقاط الشعارات المضللة مثل »وحدة المسار والمصير«، وفتح الابواب امام العالم كله كي يعود، بقيادته الاميركية المظفرة، الى لبنان، وحتى لا يبقى لبنان السيد، المستقل بكل عنفوانه، رهينة السياسة السورية ومصالحها ومساوماتها المفتوحة التي يكاد لبنان يكون رصيدها الاهم.
وكان اخطر ما اكتشفته هذه »الطبقة« التي لا هي طبقة ولا جبهة بل تجمع اشتاتاً من المنتفعين بالحرب والمستفيدين من نِعم السلام، ان المشكلة او العلة تنحصر في رجل واحد اسمه اميل لحود، فإن هو ذهب الى بيته بهدوء، انتظمت الامور جميعا، ورفرفت اعلام الحرية والديموقراطية وسادت العدالة الاجتماعية واستعاد لبنان دوره الريادي العظيم، وذهب الجيش الى الجنوب ليهدئ من قلق اسرائيل، وحلت »المقاومة« تنظيمها طوعاً او بالقوة، كما الميليشيات، وجاء السفير الاميركي الجديد فوجد كل شيء في لبنان كما يشتهي، واوقفت فرنسا حربها الضروس لحماية الدستور الذي لا يجوز المس به او التشكيك بقداسته اليوم وغدا والى آخر الزمان!
* * *
يحتاج الامر الى شيء من التاريخ… منعاً للتزوير او التشويه وخلط الصح بالغلط، ومنعا للخطأ في الاستنتاج عما حدث في الماضي القريب، حماية لما نتمنى ان يتحقق لنا في المستقبل.
فالوضع في لبنان مأساوي في ترديه، والفساد يتجاوز حياته السياسية فيلقي بظلاله السوداء على اقتصاده وعلى الادارة والقضاء وعلى الاوضاع الاجتماعية لكل ابنائه حيثما وجدوا.
ومثل هذا التدهور الشامل اخطر بكثير من ان يتحمل مسؤوليته رجل فرد، كائناً من كان ومهما اتسعت صلاحياته… دكتاتورياً.
فلنستعد الحكاية من البداية، ولنتوقف عند محطاتها الاساسية، لعلنا لا نخطئ مرة اخرى، في اختيار »الابطال«، ولا نرتكب الخطايا في محاكمتهم بحيث يتحكم الغرض في الحساب فنبرئ الجميع ونعتمدهم رجالاً للغد، مفترضين ان رجلاً بمفرده استطاع ان ينجز كل هذه الارتكابات والفظائع في ظل الديموقراطية اللبنانية الشامخة!
* * *
وصل العماد اميل لحود الى سدة الرئاسة، قبل ست سنوات، على صهوة نجاحه الاستثنائي في قيادة الجيش في مرحلة شديدة الخطورة: لقد اعاد توحيد الشراذم التي كان قد انتهى إليها الجيش خلال حروب الطوائف، ثم الحروب داخل الطوائف، وضمن دائرة صراع دولي عاصف…
كانت له، آنذاك، صورة »البطل المنقذ« الذي انتظره اللبنانيون طويلاً، كي ينتشل نظامهم الديموقراطي من وهدة سقوطه في المساومات الطائفية والصفقات السياسية المشبوهة التي كانت تستنزفه في سمعته واقتصاده والرصيد المعنوي لدولته، متسببة في خلق ازمة اجتماعية خانقة وطاردة لاجياله الجديدة الى حيث يمكنهم ان يبيعوا ولاءهم مع كفاءاتهم العلمية وعرق الزنود.
قال الناس: لقد جاء سليل البيت الوطني، العريق في مارونيته في قلب جبل لبنان، المنزه عن الطائفية، نظيف الكف، والذي تسنى له، عبر تسع سنوات في موقعه العسكري الممتاز، وعبر تجارب مشهودة، ان يكشف »الطبقة السياسية« التي استحدثت بعد اتفاق الطائف (وتعديلته الواقعية) على عجل، فيعرف مفاسدها ومباذلها، وهو قد واجه الخطأ في عينيه وهو يسعى لاستعادة حقوق الدولة من غاصبيها بالتسلط او بالغصب المموه سياسياً بالعصبية الطائفية.
وقال الناس: لقد احسنت سوريا بتزكيته، وبدعمه كي يتولى زمام الامور، مع ان ذلك اقتضى تعديلاً غير مستحب للدستور… فهذا دليل جديد على ان دمشق تريد، فعلاً، قيام حكم قوي ونزيه في لبنان، يؤيده اللبنانيون، ويكون عوناً لها من خلال نجاحه في تحقيق مطالب مواطنيه في دولة يسودها القانون وترفرف فوق نظامها الديموقراطي اعلام العدالة الاجتماعية.
… وها ان كثرة من الساسة المحترفين في لبنان يتبرؤون من التجربة، عند خط نهاية الولاية، ويباشرون حملة تشهير شرسة بكل ما جرى خلال السنوات الست، يختلط فيها سوء النية مع سوء التقدير، ومحاولة تبرئة الضمير بنفض اليد مما ارتكبوه فعلاً، وبالتصويت العلني في احتفال مشهود!
والأذكى من بين هؤلاء يفرزون النتائج، فينسبون الى انفسهم القليل من الصح، ثم يرمون على اميل لحود، ومن خلفه سوريا التي طالما امتدحوها وتغنوا بحسن اختيارها (عندما يتصل الامر بأشخاصهم)، كل الغلط في التقدير كما في النتائج.
كأن اميل لحود كان الدكتاتور الوحيد في مطهر للديموقراطية، وكأنه كان الشيطان الرجيم في غابة من الملائكة الابرار، وكأنهم كانوا غائبين وقد عادوا للتو ففجعوا بالواقع المرير بكل ما فيه من تردّ اقتصادي وازمات اجتماعية خانقة وركاكة في الحياة السياسية وغياب للبنان عن دوره الريادي الذي لا بديل منه ولا معوض عنه.
وما من شك في ان اميل لحود يمكن ان يحوز قصب السبق في اية مباراة حول الاعظم فشلاً بين من ولي الاحكام في لبنان.
لقد توفرت له مجموعة من المصادفات التاريخية ليكون الرئيس الاهم في تاريخ لبنان الحديث: من الالتفاف الشعبي الواسع حول القائد الوطني الناجح القادم من نجاح في الجيش الى الرئاسة بما يشبه الاجماع، والدعم السوري المطلق، والتسليم الدولي باختياره.
كانت صورته في لحظة الوصول اجمل من ان تكون حقيقية… لكن الكثرة الساحقة من السياسيين نافقته، ونافقت سوريا، بالترويج لتلك الصورة. ثم عندما اكتشفوا النقص في خبرته السياسية اغروه بأن يتقدم على طريق الحكم المطلق، وكأننا في نظام رئاسي، وانه بمواصفاته الشخصية يستحق ان يتجاوز الدستور والعرف والقانون كي يكمل ما بدأه في قيادة الجيش… وكأنما الدولة ومؤسساتها الديموقراطية (ولو مجازا) تمشي بأمر اليوم!
اللافت ان بين هؤلاء من يتصدر اليوم حملة التشهير بإميل لحود كتمهيد للانتقال الى الضفة الاخرى…
واللافت اكثر أن بين هؤلاء من كانوا لا يكفون عن اطلاق اناشيد الوفاء للحكم السوري، وعن الاشادة بحسن اختياره، وبحرصه على النظام الديموقراطي في لبنان وحمايته ممن يريدون تشويهه!
اما اليوم فإن دعاة »اللبننة« يصورون سوريا وكأنها طارئة على الحياة السياسية في لبنان، وكأنما النفوذ السوري قد وصل للتو الى بيروت ففوجئ به الجميع، وهرعوا الى واشنطن وباريس يطلبون المساعدة على »محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية«!
***
ان تعديل الدستور قضية، اما تعديل النهج السياسي في لبنان فقضية اخرى.
وتعديل الدستور ولو استثناء خطأ، اما تعديل النهج فقد يكون خطيئة مميتة!
وشخص اميل لحود ليس هو الموضوع، وانما موقع لبنان على خريطة الصراع حول هذه المنطقة بين اهلها وبين القوى الاجنبية العادية والمستعدية.
ومن الضروري التمييز بين الامرين حتى لا نضيع الوطن والوفاق بين اهله على قاعدة هذا النظام شبه الديموقراطي تحت شعار »حماية الدستور من خطر التعديل«.

Exit mobile version