طلال سلمان

بين جنرال تمديد وجنرال ديموقراطية اكتمال نظام طوائفي

يمكن القول الآن، وفي ظل النتائج المعلنة للانتخابات في جبل لبنان، إن النصاب الطوائفي في لبنان قد اكتمل: لقد استولد المسيحيون، بزعامة الموارنة طبعاً، قيادتهم المفوّضة تمثيلهم في الاصطفاف الطوائفي، بعد غياب طويل..
وإذا كانت الطوائف الإسلامية قد جددت لزعاماتها »بالاستفتاء« فإن المسيحيين عموماً، والموارنة خصوصاً، قد اختاروا زعامتهم »بالانتخاب«، ولسوف يتباهون حتماً بهذا »الإنجاز الديموقراطي«، مع أنهم يدينون فيه لذلك »الاستفتاء« بالتحديد!
لقد عاد »المسيحيون«، وبقيادة الموارنة دائماً، إلى دائرة الفعل… ولعل الأصح القول إن »المسلمين« قد تصرفوا، لأسباب مختلفة، بطريقة تؤدي إلى مثل هذه النتيجة، فجاءت تحمل بصماتهم، وبات يمكن لقيادتهم أن تدعي أنها قد استولدت »الشريك« الذي ظل غيابه سبب اعتلال في النظام وسلطته التي كانت حتى الأمس متهمة، والتي ترى في انتخاب الأمس فرصة لاستعادة الاعتبار والهجوم على شركائها السابقين الذين سيكون عليهم بعد اليوم إعادة حساباتهم بدقة شديدة!!
أما »لبنان« فقد غادر حالة »السكون« أو »الكمون« في ظل الوجود السوري إلى مرحلة انتقالية ستتحكّم بنهاياتها الوصاية الدولية التي استدرجتها أخطاء الممارسات الشوهاء ووفرت لها فرصة الادعاء أنها إنما تجيء لتمكين اللبنانيين من ممارسة حقوقهم الطبيعية في بلادهم تحت عنوان »الديموقراطية«..
… وهذه ليست هي المرة الوحيدة أو الأولى التي يتماهى فيها الحديث عن حقوق الطوائف مع رفع الشعار الديموقراطي! الفارق الوحيد أن لكل »وصاية« ديموقراطيتها المنسجمة مع »ولي الأمر« أو »القائم بالأمر«!
إنه »الجنرال تسونامي« الذي وفّر الفرصة لهذا »الانقلاب« الذي فاق توقعات كل الذين كانوا يطمئنون أنفسهم بأن الخروج السوري من لبنان سيفتح أمامهم الأبواب إلى الزعامة ومن ثم إلى الرئاسة..
لقد تحوّل »تسونامي«، بحسب وصف وليد جنبلاط، إلى »القيادة الرابعة« بين قيادات الطوائف، مع امتياز استثنائي هو »الانتخاب«، محتلاً الموقع الممتاز للزعامة المسيحية، المارونية تحديداً، الذي يفتح أمامه أبواب الأحلام..
هل كان ذلك لأنهم »أهملوه«، أو أساؤوا تقدير قوته هو العائد من المنفى بعد اكتمال »التحرير« الذي كان شعاره ، أم لأنهم بتكتلهم ضده واستبعاده عن دائرة تحالفاتهم، قد جعلوه »شهيداً« للمرة الثانية، وجعلوا »المسيحيين« يستعيدون ذكريات معركة »عزل الكتائب« قبل ثلاثين عاماً إلا قليلاً والتي فتحت الباب أمام هذا الحزب اليميني المغلق لكي يأتي برئيسين للجمهورية، مستفيداً من شعار »عزله« لتصفية »حلفائه« المسيحيين ومن ثم لتبرير »تحالفه« مع الاجتياح الإسرائيلي في مثل هذه الأيام من العام 1982؟!
كائنة ما كانت الأسباب فإن »المسلمين« بمختلف طوائفهم، يستطيعون الادعاء الآن، أنهم قد استولدوا زعامة مارونية جديدة… فإذا كانت صفوفهم تنتظم خلف قيادات محددة لطوائفهم فمن البديهي أن يذهب الموارنة ومعهم سائر المسيحيين إلى القيادة العائدة من المنفى، والقادرة على الادعاء أنها طاهرة الذيل من كل ما أصابهم، بل وأنها المؤهلة لإعادة الحق إلى أهله… ديموقراطياً، وبلا مدافع. لقد أسقطت »الإلغاء« و»العزل« وعادت بهم إلى نادي الحكم من بابه العريض.
ولقد كان سهلاً على الجنرال العائد من المنفى أن يدعي أنه »البريء الوحيد« وسط هذه الغابة من السياسيين المثقلين بأعباء تحالفات في الماضي لم يكن طرفاً فيها، بل إنه يستطيع الادعاء أنها قامت في مواجهته وعلى أنقاضه، وأنها وهي تعود إلى المسرح من جديد فإنما هي تسرق شعاراته التي كلفته الخلع والنفي وخمس عشرة سنة من الاضطهاد… بتواطؤ منهم، أو بصمتهم عن ظلمه، والصمت أسوأ، في هذه الحالة، من التواطؤ.
.. وبالتالي فقد كانت معركة الجنرال العائد مظفّراً سهلة جداً: إنه يصيب »خصومه« الجدد، كيفما ضرب..
فإذا كان أهل المرحلة السابقة يدينونها بعد سقوطها وينسبون إليها كل الموبقات وكل الآثام وكل الأخطاء والخطايا، فإن في ذلك تزكية عظيمة له، لأنه الوحيد الذي كان خارجها، بل وكان مضطهداً خلالها، وبالتواطؤ المكشوف بين أطرافها جميعاً..
.. بل إنهم زادوا من تواطئهم عليه، بعد عودته، لعزله والتخلص من خطره قبل ان يمكّن لنفسه في الأرض، فإذا به يسقطهم، او يفرض نفسه عليهم »قطبا أعظم«.
وهو قد حاربهم بأخطائهم: حين اغلقوا الملفات السميكة التي كانت تبرر خلعه ونفيه وطلبه الى المحاكمة، من دون محاكمة بل وبصورة لا تليق بأي قضاء ولا بأي سلطة حتى في واحدة من »جمهوريات الموز«، وفتحوا له الابواب على مصراعيها من المطار الى الفوز في الانتخابات بالخوف منه، مع الاعتذار إليه عن اخطائهم تجاهه، وعن اتهامه بل وإدانته بغير دليل، حتى لا نقول »زورا وبهتانا«!. أُسقطت التهم فإذا بالخارج على الشرعية، المنفي بقرار دولي، يعود على حصان ابيض، وبقرار دولي مضاد، ليكمل »حربه« ضد الذين اختلفوا على كل شيء ولم يتفقوا الا عليه.
***
هي ليست معركة قطع مع الماضي، ولكنها ستترك آثارها الواضحة على صورة المستقبل: لقد اكتمل الاصطفاف الطائفي، عمليا ورسميا، وبات ممكنا الحديث في صيغة الحكم غداً، بعد عودة الغائب او المغيّب، والذي لم تكن رئاسة الجمهورية لا في العهد الماضي ولا في العهد الحالي تستحضره تماما، وبكامل الحجم الذي يفترضه لنفسه، او يشعر في اعماقه بأنه من حقه، وليس فقط بقوة الأمس بل بقوة اليوم والغد.
انه شهادة مدوية بإعلان عجز خصومه ومنافسيه عن تحجيمه فضلاً عن إلغائه.
وهكذا صار ممكنا نسبة »الغياب الماروني« عن مركز القرار الى »الغريب« سواء أسميناه »عهد الوصاية السورية« او »عهد الهيمنة الاسلامية« على القرار في لبنان.
..وصار يمكن للعماد عون ان يدعي الآن انه وحده المرجعية المارونية (وبالاستطراد المسيحية) وأن الآخرين كانوا مجرد وكلاء معينين او قائمين مقام الزعيم الغائب، اما وقد عاد فعليهم ان يخلوا امامه الطريق.
…وصار بإمكان البطريرك الماروني ان يخلع »القميص الوسخ« للعبة السياسية في لبنان، وأن يتنحى عن المركب الخشن الذي اضطر الى اعتلائه في الحقبة الماضية، بسبب الفراغ عند القمة، وأن يعطي إذنا بالانصراف للذين جمعهم في »قرنة شهوان«، خصوصا وقد افرنقعوا بتأثير »تسونامي«.. وأحلام الرئاسة.
لقد انتهى مفعول الوكالة بعودة »الأصيل«!!
ولعل الجنرال قد تقصّد ان يرشح نفسه في دائرة كسروان جبيل تحديداً ليؤكد هذا المعنى. بل إن أحد »الخبثاء« من ابناء المنطقة يحب ان يرى الامر وكأن الجنرال قد دخل إليها »بالديموقراطية« حيث منعته »القوات اللبنانية« من دخولها بالحرب، خصوصا انها كانت تتلطى خلف عباءة البطريرك، ومن ثم اتفاق الطائف.
اتفاق الطائف؟! ترى كيف ستتم قراءته بعد نتائج انتخابات الجبل؟!
***
هل يأتي الاصلاح من الماضي؟!
هل تعني نتائج انتخابات الجبل ان »المسيحيين« قد ذهبوا الى »التطرف« الذي يموّه نفسه بالحرب على الفساد وبالتصدي لضرب الطائفية، وبتقديم نفسه على انه »زعيم الوطن« بكل طوائفه!!
لقد أطل على المسرح السياسي، بالأمس، تحالف جديد بين »حكم اليوم« و»حكم الغد« الموعود، يقدم حكام الأمس وكأنهم قوى المستقبل وحملة رايات الوعد بالتغيير.. واستفاد هذا التحالف من انشقاق الطبقة السياسية على ذاتها، ومن تبادل الإدانات بين اطرافها بأكثر مما يدينها الجنرال مجتمعة.
هل يمكن القول إن انتخابات الأمس قد وفّرت »تمديداً جديداً« للجنرال الذي أُولي قيادة العملية

العسكرية لخلع »الجنرال«؟! أو يمكن القول إن التمديد (السوري) للجنرال لحود قد اكتسب »شرعية مسيحية« تواجه احتمال النقض الذي سيبدد بعد اليوم »إسلاميا«، للتمديد الذي استوجب أو برر تدخلا دوليا قبل بضعة شهور؟! وهل يمكن القول أيضا وكأن »الوجود السوري« قد شكل حماية لهذه الطبقة السياسية التي انقلبت عليه، والتي حملته جميع أوزارها، وكان بسلوكه مؤهلا لان يحمل أكثر؟!
هل استعاد الجبل »توازنه«؟! وهل ان الجنرال استطاع وحده ان يهزم الاحزاب كافة؟! وهل انتهت وراثة »دولة الوصاية« بأن كل طائفة قد استقلت بنفسها تمهيداً لاعادة صياغة التحالف بين الطوائف على إقامة النظام الجديد؟!
وأي نظام هو الذي سيقوم؟!
تلك أسئلة محدودة من »كشف« طويل، ينتظر الغد لتحديد الاجابات، عبر العواصم البعيدة التي تعرف كيف توحد لغة الطوائف وكيف تنظم الانقسام والتقسيم بينها.

Exit mobile version