طلال سلمان

بين جرافات طائرات اسرائيلية

تناوبت الشاشات العربية، فضائية وأرضية، على بث المشهد نفسه »بموضوعية« قاسية الوقع على الجمهور المضيَّع بين خوفه على المصير وبين يأسه من إمكان تغيير الواقع: تمد الحفارة الصفراء عنقها الطويل في الفضاء الفلسطيني الحالي قبل أن يهوي به السائق نزولاً ليشق بالشفرة الفولاذية الحادة قلب الأرض وقلوب أصحابها، منذ ما قبل التاريخ، والذين يقفون في البعيد، يرمقونها بعيون تجمّد فيها دمع القهر، تحجزهم بعيداً عنها السيارات العسكرية للشرطة ورشاشات المستوطنين المتعجّلين لطمس الهويتين الأصليتين: هويتهم الغريبة وهوية المكان.
في هذا الوقت كان إيهود باراك ينهي قمة الأربع ساعات مع الرئيس الأميركي بتفاهم مطلق على السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، ويعود متعجلاً للقاء تاريخي مع الرئيس الصيني الذي جاء يشتري السلاح الإسرائيلي لمواجهة القاعدة الأميركية الكبرى في تايوان!! قبل أن يتفرغ للقاء وزير الدفاع الفرنسي الذي جاء بدوره لشراء الطائرات الإسرائيلية المطوَّرة بأكثر مما تنتجه مصانع السلاح في بلاده.
مَن يهتم بحدود الانسحاب الإسرائيلي من الأرض اللبنانية المحتلة؟
ومَن سيتوقف أمام القرار الاستفزازي الجديد لحكومة باراك بإطلاق الاستيطان والأمر بتشييد مستوطنات جديدة في هضبة الجولان السورية المحتلة؟
ومَن سيناقش التمادي الإسرائيلي في قضم أراضي الضفة الغربية في فلسطين بتشييد المزيد من المستوطنات في ما كان يفترض أنه سيسلِّم إلى »السلطة«، ثم بالربط بين الجديد والقديم والبين بين من هذه المستوطنات بحزام أمني يحميها مقتطعاً 10 في المئة من مجموع مساحة الضفة، تضاف إلى النصف من تلك المساحة التي لن تُعاد أبداً، ولا أحد يطلبها!!
فأما الرئيس الصيني الذي تجشّم عناء السفر إلى هذه المنطقة التي كانت في طليعة أصدقاء بلاده ليزور منها وفيها إسرائيل فقط، وليتعاون مع إسرائيل فقط من مجموع دولها، وليشتري منها فقط بينما هو في كامل المنطقة »بياع شاطر«، فإنه يستطيع تبرير فعلته بأن رئيس السلطة الفلسطينية هو مَن طلب إليه الاعتراف بإسرائيل والانفتاح عليها، »لعل ذلك يساعد في تليين موقفها من شعب فلسطين وحقوقه في أرضه«..
وأما الوزير الفرنسي الذي يدور حاملاً شنطته يروّج ليبيع الطائرات والسلاح بأنواعه للعديد من الأقطار العربية، وبمليارات الدولارات، فإنه يقدم شهادة بالتفوق لإسرائيل، بينما هو يعلن الاستعداد لمساعدتها في توفير التغطية اللازمة لانسحابها الهجومي من لبنان.
كل ما حسم من قيمة العرب، ومن دورهم، يضاف الآن إلى إسرائيل فتبدو في صورة الدولة العظمى وأكثر، بدليل أن الدول العظمى تأتيها لتشتري منها التقدم وأسباب القوة.
لكن مظاهر القوة والنفوذ هذه لا تبدل من حقيقة بسيطة وثابتة مفادها: أن إسرائيل كلها، حكومة ومعارضة ومعهما الجيش، تعيش حالة خوف لافتة، هي التي احتلت بالقوة أراضي أربع دول عربية ذات يوم، من سحب عسكرها من الأرض اللبنانية المحتلة.
والمعلق بن كسبيت يكتب في صحيفة »هآرتس« الإسرائيلية: »برغم التصريحات والقرار التاريخي للحكومة فإن إيهود باراك يعرف أن الانسحاب أحادي الجانب من لبنان قد يؤدي إلى نهايته السياسية«.
مرة أخرى، وعبر مناخ المحادثات في واشنطن بين كلينتون وباراك، يتبدى واضحا كم أن الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من لبنان هو قرار بالحرب على سوريا عبر لبنان وفيه ومع تخدير الفلسطينيين بوعود تسحقها الجرافات وتخفيها المستوطنات الجديدة.
إن إسرائيل تعمل لتحويل النصر العسكري والسياسي الباهر الذي حققه لبنان المقاوم إلى »هدية مسمومة« للبنانيين والسوريين والفلسطينيين معاً (ومن خلفهم سائر العرب)..
… لا سيما أن مصير الفلسطينيين، لا سيما الذين في الشتات، وفي الطليعة منهم هؤلاء الذين يعيشون في لبنان، هو موضوع »الهدية المسمومة« وميدان استهدافها الحقيقي.

Exit mobile version