طلال سلمان

بين »المصارف وطنية« وباريس 2

من المتعذر في ظل الظروف الراهنة سياسياً والانعكاسات الاجتماعية الحادة للأزمة الاقتصادية مساءلة الحكومات المتعاقبة منذ نهاية الحرب الأهلية وحتى اليوم، عن أسباب تراكم الديون، وبالتالي تعاظم حجم خدمتها (أي فوائدها)، بحيث باتت تشكل مصدراً لخطر داهم ليس فقط على الاستقرار النقدي بل على سلامة المجتمع وانتظام الحياة العامة فيه بجوانبها السياسية والاقتصادية والأمنية.
وبمعزل عن مسؤولية الحكم، بأطرافه جميعاً، خلال السنوات العشر الماضية التي تعاظم فيها خطر الانهيار حتى باتت »الليرة« على كف عفريت وساد الحديث عن خطر إفلاس الدولة تحت ضغط عجز الموازنة وتفاقم مخاطر الديون وفوائدها، فإن اللغط طاول أيضاً المصارف (لا سيما الكبرى منها) ووجهت إليها اتهامات قاسية بأنها مستفيدة من الأزمة ومن استمرارها لأنها وفرت لها أرباحاً قياسية من سندات الخزينة، لا سيما في الإصدارات الأولى وعندما تجاوزت الفائدة أربعين في المئة على الليرة.
ذلك أنه منذ بداية التسعينيات باتت المصارف »شريكاً« في المسؤولية عن الاستقرار النقدي، بمعزل عن مدى التداخل وصلات القربى أو النسب بين المسؤولين في الحكم وقيادات الصف الأول في المصارف الكبرى.
ولقد عرف المواطن، أي المكلف، بالتواتر، أنه إنما يدفع غالياً، من دخله الشرعي، ثمن هذا الاستقرار النقدي المصطنع، وأن أرباحاً طائلة ذهبت الى المقتدرين ممّن »حجزوا« كميات كبرى من سندات الخزينة بالليرة، لكي يجنوا فوائد لا يمكن تخيلها… إذ لا توجد في أي مكان في الدنيا فرص لجني أرباح تصل الى أربعين في المئة (ولعلها قد تجاوزتها أحياناً) في توظيف في سندات يضمنها المصرف المركزي في بيروت.
كان بين »المتهمين« العديد من رجال المال والأعمال في بعض أقطار الجزيرة والخليج العربي، ومن ثم كبريات المصارف في لبنان، إضافة الى »قناصي الفرص« المعروفين جيداً في لبنان والذين »استدانوا« بفوائد محدودة ليوظفوا بفوائد عالية ودون أن يستخدموا إلا القليل القليل من أموالهم الخاصة.
أما في النتائج فكان ان امتنع معظم المتمولين عن التوظيف في مجالات استثمار أخرى (غير السندات)، من شأنها تنشيط حركة الانتاج وزيادة فرص العمل في البلاد، والمساهمة في رفع معدلات النمو بما يخفف من ضغط الأزمة الاجتماعية ومن اتساع نطاقها بحيث طاولت من كانوا يعتبرون في حكم »الميسورين« من أصحاب المؤسسات المتوسطة والصغيرة.
وكان من بين الظواهر المقلقة تزايد الإفلاسات، وتفاقم مشكلة الشيكات بلا رصيد، وتعاظم حدة بطالة الشباب الذين عزّت عليهم فرص العمل في الداخل كما عزّت عليهم سبل الهجرة للحاق برغيف الخبز الى أي من جهات الأرض.
من هنا فإن خبر الاتفاق العتيد بين مصرف لبنان وبين المصارف الخاصة حول إصدارات جديدة خلال العامين المقبلين (2003 و2004) بفائدة صفر، يخفف من وطأة الاتهامات، ويعطي المصارف فرصة لتوكيد استعدادها »لرد الجميل« بتسليف الخزينة بلا فوائد، بحيث يمكن كسر حدة الأزمة الناجمة عن تعاظم خدمة الدين، وهي الأزمة التي كانت تهدد الدولة بالإفلاس، والتي من أجلها اجترحت معجزة باريس 2، … وهي المعجزة التي تطلبت رعاية فرنسية بتأييد سوري معلن وعدم ممانعة أميركية أمكنها تعطيل الاعتراض المفترض لصندوق النقد الدولي على توفير تسهيلات مالية مؤثرة من خارجه، وبمعزل عن قيوده الملزمة.
ولقد يقول البعض إن المصارف تعيد الى الخزينة بعضا من الفوائد على فوائد ما وظفته في سندات الخزينة، في السنوات الأولى للأزمة.
لكن المؤكد أن هذه الاستجابة من المصارف تأتي منطقية وطبيعية، فلا يعقل أن يجتمع العديد من الدول والصناديق (عربية وأوروبية) لنجدة لبنان ومنع انزلاقه نحو الاختناق، بكل ما يترتب من نتائج مدمرة على المستويات كافة، السياسية منها والاقتصادية والأمنية، ثم تمتنع »المصارف الوطنية« عن رد الجميل الى خزينة دولتها، بتوظيف بعض مالها بلا فوائد في سندات الهدف من إصدارها كسر حدة الضاغط الناجم عن التهام خدمة الدين لنسبة عالية من الدخل الوطني واستطرادا من ميزانية الدولة.
ومعروف ان الموازنة العامة للدولة قد خلت، في السنوات الأخيرة، إلا في ما ندر، من البنود الموجهة للاستثمار في مشروعات جديدة، او حتى لانجاز مشروعات بوشر تنفيذها ثم تعطل استكمالها بسبب عجز الدولة عن تمويلها.
تبقى ملاحظات سريعة على هذا التطور النوعي في العلاقة بين المصارف وبين الخزينة العامة، وبالاحرى، بين المصارف والمجتمع أبرزها التالية:
ان مساهمة المصارف في التخفيف من وطأة الدين العام وخدمته ستعيد الاعتبار الى دورها في الدورة الاقتصادية للبلاد، وستسقط عنها التهمة التي كادت تصورها في صورة »المرابي« الذي يوظف ماله لتحقيق أكبر قدر من الربح في اقصر فترة، وبمعزل عن الوضع العام في البلاد.
ان هذه المساهمة ستظهر المصارف حريصة على الاستقرار العام في البلاد، بأكثر من المال الأجنبي الذي سرعان ما يتحول الى عبء على الاقتصاد الوطني… وليس سرا ان كثيرين قد نظروا الى التسهيلات الدولية الاستثنائية التي منحت للبنان على الصعيد المالي (ولاعتبارات سياسية) بأنها انشأت ما يشبه »صندوق الدين« أيام مصر الخديوية، الذي سيمارس نوعا من »الوصاية« على السياسة المالية للدولة… وبرغم ان الرعاية الدولية العربية قد حدت من الشروط القاسية لصندوق النقد الدولي، ولو مؤقتا، إلا ان خطر تحكم هذا الصندوق السيئ السمعة في اوساط الشعوب جميعا، ما زال قائما… ولعل هذه الخطوة من طرف »المصارف الوطنية« تمنع مثل هذا التحكم الذي لا يمكن ان يكون لخير لبنان واللبنانيين.
ان هذه المساهمة توفر على الدولة أي على المكلف اللبناني ما يزيد عما وفره مؤتمر باريس 2، إن هي تمت بالشروط التي أعلنت عناوينها وبقي أن تعرف تفاصيلها للحكم النهائي عليها… ومن البديهي ان تثبت »المصارف الوطنية« انها أكثر حرصا على بلادها من الأجنبي، والعكس جريمة إن لم نقل خيانة.
وفي أي حال فسيظل المواطن اللبناني رهينة الديون لجيلين إضافيين، ومن هنا فإن الطموح لم يعد »رد القضاء« بل »اللطف فيه«، بمعنى ان يبقى لبنان ويبقى اللبنانيون فيه لكي يستطيعوا سداد الديون ومن ثم بناء وطنهم الصغير بما يمكنهم فعلا من استبقائه ومن ثم البقاء فيه.

Exit mobile version