طلال سلمان

بين العهدين

على امتداد ثلاثة أيام طويلة، بقيت السلطة في لبنان، ببعض مراجعها العليا، مشغولة بأزمة عارضة كان بديهياً ألا تحدث أصلاً، وكان يمكن بل وكان بديهياً أيضاً أن تنتهي »في أرضها« و»في ساعتها«، وبعد انقضاء »فورة الغضب« وعودة الوعي بالمسؤولية إلى دائرة الفعل بدلاً من الانزلاق إلى رد الفعل ومن بعده الوقوع في أسر الخطأ.
إنه ترف يفترض ألا يمتلكه وألا يمارسه أي بلد في الدنيا، فكيف إذا كان في مثل أوضاع لبنان غير المفرحة: لديه ما يكفي من الأزمات الاجتماعية والمعيشية والانقسامات الطائفية والمذهبية، إضافة إلى ما يفرضه الانتقال من عهد الى عهد من تضامن وتوطيد لأركان الوحدة الوطنية، وتوكيد لبلوغ النظام سن الرشد بحيث يتحمل الانتقال السلمي للسلطة بغير إشكالات أو جراح أو تجريح.
وإذا كان انشغال اللبنانيين، بمختلف أمزجتهم وأهوائهم، بالانتخابات البلدية والاختيارية، قد وفر للسلطة »إجازة« من همومها الثقيلة وهي تواجه عاجزة مسلسل الأزمات الناجمة عن الركود الاقتصادي و»التجميد« السياسي، فإن هذه »الإجازة« قد تسببت في »نكسات« و»خيبات أمل« مريرة لبعض أطراف السلطة، مما زاد من إضعاف قدرتها على الفعل واتخاذ القرارات.. لا سيما »المرّة« منها!
وبغض النظر عن ادعاءات الانتصار، ببلدية هنا أو بنصف بلدية هناك وبمختار هنالك، فإن نتائج الانتخابات البلدية كانت »فضيحة« للطبقة السياسية عموماً، من هو في موقع الحكم ومن هو في موقع المعارضة، من ينتظمه حزب أو تيار، ومن يدعي أنه بنفسه الحزب والتيار والشعب أجمع!
ومما يقلق أن تنعكس هذه النتائج، بما خلفته من خدوش و»تحجيم« و»تقزيم« أحيانا لبعض عناوين الطبقة السياسية، على شكل خلافات يومية تعطل ما تبقى من الدورة الطبيعة لماكينة الحكم، فينشغل أطرافه بأنفسهم، وتتزايد انقساماتهم بما يشل البلاد، دولة ومجتمعاً ومواقع إنتاج، فيتفاقم الركود الاقتصادي، وتتعثر عمليات الاستثمار، ويقصر موسم الاصطياف عن تحقيق المرجو منه.
لقد بدأت تطل بوادر غير مطمئنة، تشي بأن مرحلة ما بين العهدين قد تكون شديدة الإضرار بصورة الدولة،
والخوف أن يتصرف البعض بموجب قاعدة »إذا مت عطشاناً فلا نزل القطر«!
وثمة خوف مضاد يتمثل في أن يتصرف البعض بموجب قاعدة »طالما أنني الباقي فليأخذ الذاهب ما يشاء، ولنستجب لكل مطالبه حتى لا يتسبب بالتعطيل ويشوّش علينا الجو مما يؤثر على صورة العهد المقبل«.
وما بين ذاهب وباق تضيع »لحية« البلد!
في أيار 1981 انتصر كما هو معلوم فرنسوا ميتران على الرئيس آنذاك جيسكار ديستان، في الانتخابات الرئاسية الفرنسية.
وذهب التلفزيون الفرنسي إلى قصر الأليزيه، بعد إعلان النتائج رسميا، لينقل الرسالة الرئاسية الأخيرة لديستان الذي كان يحرص على تقليد المظهر التاريخي للجنرال ديغول، مع إضافة قيافته الأرستقراطية لباساً وكلاماً وطريقة تصرف.
قال ديستان كلمة بين ما جا فيها: »قال الفرنسيات والفرنسيون كلمتهم، وأنا أنحني أمام إرادتهم هذه برغم أنني كنت أتمنى لو أن خيارهم كان مختلفاً. على هذا فإنني أهنئ السيد فرنسوا ميتران بثقة الفرنسيين، وأتمنى له النجاح. إن الرئاسة أهم من الرئيس، والحكم أهم من الحاكم، والدولة أهم من الحكم، والوطن أهم من الجميع. عاشت فرنسا«.
إن بعض الرؤساء يضيفون إلى معنى الدولة، مع نهاية ولاياتهم، مثل ما أعطوه خلالها..
وبين من يخلدهم الوطن، أي وطن، أولئك الرؤساء الذين يختمون عهودهم بأفضل مما بدأوها،
ومن حظ الرئيس الياس الهراوي أن البدايات كانت بائسة جدا جدا، بحيث أن الناس يحفظون له جميل معاناته من أجل ترميم صورة الدولة، ثم من أجل تمكينها من الإنجاز، بما يتجاوز القدرات التي كانت متيسرة،
غداً تذهب الهنات والهفوات ولا يبقى إلا الانجاز الثابت في الأرض،
تذهب الخصومات والمماحكات والإشكالات، ولا يبقى إلا ما ينفع الناس في يومهم وفي غدهم.
وبالتأكيد فإن الناس حريصون على أن تبقى صورة عهد الهراوي ثابتة في أذهانهم ليس كمرحلة انتقالية بل كعملية إعادة تأسيس للدولة، وليس كمجموعة المصادفات بل كثمرة لإرادة قوية ولإيمان عميق بسلم أهلي متين لشعب مات مليون مرة في حرب المليون سنة الماضية.
والشهور القليلة المقبلة شديدة الأهمية في تكوين الصورة التي ستبقى، في الضمائر، لعهد الرئيس الياس الهراوي.

Exit mobile version