طلال سلمان

بين الجدة وحفيدتها

الحفيدة: يا جدتي. طويل كان المشوار. تقطعينه يا جدتي كل يوم من بيتك إلى هذا البيت الذي تعملين فيه. أنا شخصيا تعبت مع أنني لم أكن أحمل شيئا على رأسي. عرضت عليك أن أحمله بين يداي ورفضت بحجة أنه ثقيل وأنني صغيرة. كم مرة قلت لك أنني لم أعد صغيرة. الآن ارتاحي وأنا أعمل. أين أبدأ وماذا أفعل وما عليك إلا التوجيه والإشراف.

الجدة: لا يا ابنتي. المشوار لا يتعبني. رأيت بنفسك أن لي صديقات كثيرات في السوق أشرب معهن الشاي قبل أن أركب الميكروباص. منهن ومن الرجال، أحدهم بائع البرتقال واليوسف أفندي، أحصل كل صباح على نصيبي من أخبار السياسة ونميمة المجتمع، المجتمع الكبير اللي بره السوق ومجتمعنا، مجتمع الغلابة. النهاردة لم يخفوا سعادتهم بالتعرف عليك فقد سمعوا كثيرا عنك مني. طبعا لاحظت اهتمامهم وبخاصة بائعة النعناع والجرجير التي حاولت مرارا أخذ عهد مني أن تكوني من نصيب ابنها. لم تكن تصدق أنك طفلة واليوم عندما رأتك وتحدثت معك اقتربت بفمها من أذني لتؤنبني. قالت عنك ها هي أمامي، ليست طفلة ولا ناقصها حاجة كما كنت أدعي في كل مرة طلبت مني عهدا ووعدا بأن تكوني من نصيب ابنها.

صحيح المشوار طويل ولكن كما رأيت أعرف ويعرفني كل سائقي الميكروباص الذين يشتغلون على هذا الخط. كانوا في المرات الأولى التي ركبت فيها معهم يطلبون أجرة راكبين، أجرة عني وأجرة عما أحمل من مشتريات السوق أو مكوة البيه أو حلة محشي ورق العنب أو كلها معا. أسمع منهم ومن الركاب حكايات لا تمل. نستعيد معا ذكريات الماضي، أيام الخير والطيبة والأخلاق الحميدة. نحن النساء كنا نمشي في شوارع الحي بتاعنا مطمئنين ومرتاحين أننا في حماية رجالة مننا وعلينا. ما كناش نسمع ولا نتعرض للي بيسموه تحرش. نشترك جميعا في الحديث وفي سرد حواديت عن أيام زمان، زمن عدوية والست ماري منيب ومحمود شكوكو ابن حتتنا في الجمالية حيث ولدت ونشأت. على فكرة أنا سمعت إن البيه نفسه مولود هناك، بس أوعي، حسك عينك تغلطي أمام البيه وتجيبي السيرة دي.

الحفيدة: لا تجزعي يا جدتي فلن أخبره شيئا عما يدور بيننا أو نتبادله من كلام. أنا على العموم أحضرت معي كراسات المدرسة والكتب، كتب الحكومة وكتب الامتحانات ليرى بنفسه درجاتي التي حصلت عليها في امتحانات نصف السنة. أنت عارفة إنه انبسط لما قلت له إن أنا عايزة أكمل تعليمي لغاية آخر سنة في الثانوية. أنت كنت واقفة لما قال لي إني لو نجحت هذه السنة فسيكافئني. بس على فكرة أنت وأمي دايما تحكوا عن شوارع  زمان اللي ما فيهاش معاكسة ولو على الأقل من ولاد ورجالة  حتتنا. لأ يا ستي إحنا اللي بتسمونا أطفال بنسمع من الرجالة دول اللي بتشكري فيهم كلاما غريبا مش فاهمين نصه وكلاما كبيرا أو مثيرا للقرف إلى أبعد الحدود. وبعدين قوليلي هو أنا صحيح كبرت لدرجة إن الستات أصحابك بيطلبوني للجواز.

الجدة: اللي أنا شايفاه بيقول كده. ليهم حق نسوان السوق. ما أنت قدامهم ما شاء الله  طول بعرض. أطول مني مرتين وأطول من أمك وحلوة زي البدر ومتعلمة يعني بتفك الخط مش زيي أنا وأمك وكل خالاتك. إنت الوحيدة في كل أحفادي اللي حتاخد الشهادة أهو بعد كام شهر. صحيح كلهم صغار بس إنتي اللي فيهم. ثم تعالي فهميني. الشاب الحليوة اللي لازق فيكي وبيجي كل يوم عندنا أو عند أمك  وما يمشيش إلا في أنصاص الليالي.  قدامنا بيقول إنه متفق معك على الجواز لما تكبري. ده بتسميه إيه. إحنا ساكتين لأن أمه بعرفها وست بتعرف ربنا وبعدين الشاب كسيب وعنده توكتوك شغال عليه وتوكتوك بيشغل عليه شبان يحاسبهم اليوم بيومه.

الحفيدة: شوفي يا تيتة أنا مفاهماه سيرة الجواز يحل عنها. هو صحيح كويس وصريف وبيعرف يلبس ونضيف في شكله وطيب في تصرفاته وعنده أخلاق مش زي بقية شبان الحارة، لكن هو كمان عنده ثمانية وعشرين سنة وأنا لسه قدامي مشوار طويل لحد ما آخد الثانوية وساعتها أفكر في مستقبلي زي أي واحدة متعلمة. أنا سمعت إنه راح لأبويا في بيته وقالو إن إحنا بنخرج سوا وإن أنا بكره سيرة الجواز وعايزه يتوسط بيننا ويخليني أوافق. أنا غضبت لما عرفت إنه راح لأبويا وجاب سيرة الجواز. فهمته إذا هو اتكلم معاكو تاني أنا مش حخرج معاه وحاطلعه من حياتي. فهمته كمان إن أنا لسه صغيرة وعايزة أفضل ألعب مع صحابي من بنات وصبيان الحتة. أنا عارفة إن أنت وأمي ما بتستغنوش عنه في مشاوركم البعيدة وده كمان بيخليني ساكتة عليه. بس أنا صحيح بحس أنه بياخد باله مني والظاهر إنه بيحبني، ولكن أنا معرفش يعني إيه حب. إحنا في بيتنا عمرنا ما استعملنا الكلمة دي إلا ساعة الأكل. أنا كمان سمعتك مرة بتقولي لأمي إنك عمرك ما سمعت الكلمة دي على لسان جدي ولا أتت على لسانك. سألت أمي من يومين عن سبب نزوح أبويا من بيتنا وهل يمكن أن تكون هي ورا الطلاق. أجابت أنها كانت فعلا وراء الطلاق لأنه ما كانش بني آدم. ألمحت أنه يمكن أفضل لنا جميعا لو أنا كمان بعدت عنه ولا أراه إلا عند الضرورة القصوى. سألتها تاني ورفضت تزيد. إيه الحكاية يا تيتة، أنت تقدري تحكيلي؟

الجدة: يمكن صحيح يا بنتي إن فرق السن بينك وبين الشاب اللي رايح جاي علينا فرق كبير. أنت قولتيها. قولتي إنك عايزة تلعبي مع العيال، هو كبر ومش عايز يلعب لعب عيال. ويمكن أنت مش حيعجبك لعب الكبار وده بيحصل كتير. لن تكوني الزوجة الوحيدة التي لا ترتاح للعب الكبار حتى لو كبرت هي نفسها وصارت من الكبار. أما حكاية أمك وأبوك فهذه تخصهما، ولكن يجدر بي أن أنبهك إلى حقيقة أن أمك حاولت تنجح جوازتها وفشلت وأي امرأة في مكانها كانت لازم تفشل. وعلى فكرة يمكن يكون أحسن للجميع لو أنت عملت بنصيحة أمك وقللت زياراتك له، وإذا وجبت الزيارة خدي معاك الواد بتاع التوكتوك.

الحفيدة: لعلمكم كلكم أنا لم أعد طفلة حتى لو أردت فتفاصيل جسدي تخون رغبتي وتكشف حقيقة أنني انتقلت فعلا من العيش في جسم طفلة إلى العيش في جسم امرأة. الآن أبدأ رحلتي مع كتبي وكراساتي ومع الأستاذ رب هذا البيت ليعززوا لي الثقة في مستقبل مختلف عن المكتوب لي حتى الآن. من فضلك يا تيتة استحملوني شوية كمان. أصل أنا مش ماشية إلا بعد أن أحصل على الشهادة الكبيرة أوي وأتعلم إزاي أتكلم في كل حاجة تمام مثل بنات الموبايل.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version