طلال سلمان

.بين الإعتراف والحريق!

في الذكرى الخمسين للندوة اللبنانية التي غابت مع انفجار الحرب الأهلية وتغييب لبنان الدور والحوار والمنتدى الفكري والمكتبة والمطبعة وصحيفة الصباح العربية، واجه رئيس الجمهورية المستمعين إليه بأحد أخطر الاعترافات السياسية التي تجرّأ على قولها مسؤول من فوق سدة السلطة..
قال فاضحاً النفاق السياسي السائد: إن الجميع يقول بإلغاء الطائفية ويرميها بأقذع الأوصاف ويصوّرها أم الشرور، أما الممارسة فنادراً ما خلت من الطائفية، ولكم عملنا على تعزيزها وتثبيتها وإغناء أسباب حياتها بينما نحن نطالب بإلغائها.
قبل ساعات من ذلك الخطاب، كان جمهور غاضب قد أقدم على إتلاف محرقة للنفايات في بعض أطراف الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، وسط شلل رسمي ملحوظ عن مواجهة ذلك الغضب الذي برَّر نفسه بافتراض وجود شبهة طائفية في التمييز بين النفايات،
وفي صرخة وجع، كان وزير البيئة يشكو لكل مَن التقاه انه عاجز عن الإنجاز لأن للنفايات هويات طائفية بل ومذهبية، وكذلك للكسارات! فالأرمن يطالبون بنقل مكب النفايات من برج حمود، فيعترض موارنة المتن لمجرد تخمينهم أن المكب قد يستقر في بعض »متنهم«! وأهالي سعدنايل السنة يرفعون أصواتهم بالاحتجاج لأنهم سمعوا أن مكباً للنفايات سيقام على تخوم خراج بلدتهم، ولأنهم لا يقبلون أن تُحرق في أرضهم نفايات زحلة الكاثوليكية، وهلمجراً،
لكل طائفة نفاياتها، ولكنها تفضّل أن يكون المكب في حضن طائفة أخرى، يا حبذا لو كانت المنافسة،
أما الكسارات فقد شهدنا فصولاً من حروبها المظفّرة التي انتهت بأن تمّ غض النظر عن الأقوياء من أصحابها والمستفيدين منها، خصوصاً بعد تحصينها بطائفياتهم ومذاهبهم القوية!
أما التوظيف فأمره أشهر (وأبشع) من أن تُستعاد حكايات الظلم للكفاءة والخبرة فيه وكيف تُسحق تحت أقدام الطائفيين والمذهبيين.
كان الأمر متصلاً، في البداية، بموظفي الفئة الأولى، التي حلّت بالمناصفة، ثم بلعبة الكلمات المتقاطعة حيناً والأواني المتطرفة حيناً آخر، ثم تدرّجت حتى وصلت إلى المتعاقدين والمتعاملين والأجراء المياومين وكل مَن تقاضى أجراً من صندوق المال الذي بات من حق كل طائفة أن تطالب بنصيبها منه وكأنها راحلة غداً،
كيف يمكن في حالة كهذه فصل المطالب المشروعة لبعض المناطق والجهات المحرومة عن المنطق الطائفي، بل والمذهبي؟!
هذا مع التذكير بأنه كان للامتياز طائفته وكان للمحروم، من قبل، طائفته، ثم افترض المفترض أن ثمة تبادلاً في الأدوار قد وقع في حين أن ما وقع فعلاً هو أن عدد مَن يمكن إدراجهم في خانة المحرومين ما زال على حاله: فقد كانت عكار المارونية السنية محرومة وما تزال، وكانت منطقة الهرمل رأس بعلبك القاع الشيعية الكاثوليكية محرومة وما تزال، وكانت منطقة بعلبك بغربها وشرقها وصولاً الى شليفا ودير الأحمر وعيناتا، وهي شيعية مارونية، محرومة وما تزال، وكان الجنوب بمجمله الشيعي السني الكاثوليكي محروماً ولعل الحرمان قد خفّ نسبياً ولكنه لما ينته، كذلك بلاد البترون وبلاد جبيل وأعالي كسروان يمكن تصنيفها في خانة المحرومين، ومثلها الكثير من مناطق بيروت ذاتها.
في غياب التعاطي الوطني المسؤول مع »البلاد« كلها بمنطق الدولة الأم التي تحب »غائبها حتى يعود، ومريضها حتى يشفى«، والتي تلتزم سياسة الإنماء المتوازن حقيقة، سيظل النفاق السياسي سائداً في الدور والقصور، بينما عدد المحرومين يتزايد، وأسباب الحرب الأهلية تتراكم منذرة بانفجار خطير.
لعل اعتراف رئيس الجمهورية يكون الخطوة الأولى لتصحيح ما طال انتظار زمن تصحيحه حتى بدأ إشعال النيران في محارق النفايات!

Exit mobile version