طلال سلمان

بيروت وقمتها محاصرة في رام لة

برغم »التطنيش« العربي الرسمي، وبرغم التقاعس العربي الشعبي، فإن الحقيقة الدامغة تكشف أن العرب جميعهم محاصرون، بالعجز أو باليأس أو بكليهما، في رام الله مع شعب فلسطين وسلطته، بمعزل عن الاتفاق أو الاختلاف معها.
ومؤكد أن العرب بمجموعهم، حكومات بإعلامها الرسمي، وشعوباً بأحزابها وتنظيماتها القديمة، وفضائيات بمراسليها الأصليين أو المستعارين، كانوا أكثر اهتماماً وبما لا يقاس بالحصار الأميركي الغربي الدولي على كابول ومن ثم قندهار، وعلى مصير حكومة طالبان وأمير مؤمنيها الملا محمد عمر فضلاً عن البطل الأسطوري أسامة بن لادن، أكثر من اهتمام هؤلاء مجتمعين بمصير شعب فلسطين، بمدنه ومخيمات لجوئه وقراه المنسوفة بيوتها، بالمقتولين من رجاله ونسائه وأطفاله، قبل سلطته و»رئيسها المنتخَب« ومن ثم رجالها من حملة بطاقات »الشخصيات المميزة«.
برغم ذلك كله فإن »رام الله« الفلسطينية تبدو »عاصمة« الواقع العربي الراهن: فهي محاصَرة من الخارج ومن الداخل، يقرَّر لها ولا تقرِّر، يصمد أهلها المجوَّعون في مواجهة قوى ضغط سياسي وعسكري لا قِبَل لهم بمواجهتها، يختلفون ويؤجلون المواجهة في ما بينهم، داخل غرف السجن الواحد في انتظار وساطة ما أو شفاعة ما تجنّبهم مصير »الأفغان العرب« أو شعب الأفغان نفسه في الحرب التي لا مجال لأي تكافؤ فيها بين المنتصر بغير خسائر وبين المهزوم بغير فرصة حقيقية لقتال جدي يستوي ويتسق مع التراث النضالي المجيد لهذا الشعب العظيم.
كل العرب في الأسر: مَن هادن إسرائيل فامتنع عن قتالها ماضياً وحاضراً، ومَن والى أميركا فناصرها ظالمة أو مظلومة (؟) وحاباها ووالاها ولبّى طلباتها جميعاً فسلمها »المشبوهين« من رعاياه، وزوّدها بكل معلوماته السرية عن الناشطين من أبنائه الذين ضللهم هذه المرة الدعاة المزيفون باسم الدين الحنيف، وقد كانوا إلى ما قبل فترة موضع فخره وعنوان إخلاصه المطلق للحليف الأكبر في مقاتلة الكفرة والملحدين من السوفيات وسائر الشيوعيين الملعونين إلى يوم الدين!
* * *
كل العرب في الأسر، ورام الله الفلسطينية هي بين عناوينهم الجديدة ليس إلا.
… وقمة بيروت، العربية الدورية العادية الأولى تبدو محاصَرة بأشد من حصار رام الله الفلسطينية.
ليست مشكلة القمة العربية في مكانها أو في زمانها، بل مشكلتها أن ليس للعرب »قمة«.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فليست مشكلة القمة في بيروت أن يحضر معمر القذافي أو لا يحضر، على خطورة ما أثير على هامش احتمالات حضوره من قضايا معلقة كان يمكن أن تجد حلاً معقولاً أو مقبولاً لو تمّ التصدي لها قبل عقدين من الزمن أو يزيد بالجدية المطلوبة وبالحرص المفترض على حياة القياديين العرب، واستطراداً على حياة المواطنين العرب، فضلاً عن كرامة مواقعهم، والآثار المدمّرة لنتائج الإهمال الرسمي لمسائل على هذه الدرجة من الخطورة، والتي من بينها أن يتصدى أي »تنظيم« حقيقي أو مصطنع للتهديد بنسف القمة إذا حضرها هذا أو ذاك من الرؤساء، وأن يوجد ويتحرك من يستثمر هذا المناخ لمحاولة تحريك »الفتنة الكبرى« مجدداً، بينما العالم يطارد »العربي« و»المسلم« عموماً بوصفه إرهابياً وعدواً للحضارة الإنسانية!
كذلك فليست مشكلة قمة بيروت في صدام حسين، الحاضر ولو غائباً، وفي طروحاته العنيفة التي يبدو أن عمرو موسى قد نجح في إقناعه بتلطيفها حرصاً على عدم إضاعة الفرصة الجديدة المتاحة للتخفّف منها عربياً، بالأساس، ومن ثم دولياً..
ولا المشكلة في الغياب الاضطراري للمرضى من الحكام العرب، شفاهم الله..
.. ولا في نقص أو غموض المهمات المطروحة على جدول أعمال القمة، وما أكثرها وما أثقل عناوينها كتحدٍّ يعادل الدخول في التاريخ (أو الخروج منه؟!).
.. ولا هي طبعاً، ومن باب الطرافة، في الاشتباكات السياسية الداخلية في لبنان، بين الذين يريدون اقتناص القمة كإنجاز شخصي وبين الذين يحاولون تعطيلها نكاية بالآخرين.
إن قمة بيروت تحت الحصار الإسرائيلي.
وإذا ما استمر الوضع القائم في رام الله حتى موعدها المقرر، بعد حوالى الشهرين، فإن كل المشاركين فيها سيشعرون وكأنهم يلتقون في ظل دبابات أرييل شارون ومدافعه، ومن فوقهم طائراته الحربية الأميركية.
إن السلطة المحاصرة في رام الله، والتي تتحول تحت ضغط التهديد إلى سجّان للمقاتلين، تتقاسم معهم غرف المعتقل الواحد، تقدم صورة نموذجية للوضع العربي حيث ينحصر الأمل في »طاقة« التدخل الأميركي من موقع »الحرص على الاستقرار« بعدما استقالت واشنطن من »عملية السلام« ودور »الوسيط النزيه« فيها.
* * *
ضاق المكان على اليد المرفوعة بشارة النصر. وقلعة الصمود تحوّلت أو هي تتحول إلى سجن لرفاق السلاح الذين يعطون الصمود معناه.
ورام الله ليست بيروت 1982 التي أمكن تصوير الخروج منها، تحت مدافع شارون، وبالوساطة الأميركية، وكأنه انتصار »للثورة« يقرّبها من فلسطين.
ولقد مات الحسن الثاني الذي حشد الرؤساء والملوك العرب في شاحنة لاستقبال عرفات المنتصر في بيروت، العائد إلى فلسطين، ويده مرفوعة بشارة النصر.
إن قمة بيروت تحت الحصار الإسرائيلي، ويبدو أن قرار انعقادها معلق بإرادة أرييل شارون، بعدما انسحبت الولايات المتحدة من مسعاها الرمزي المحدود لترتيب وقف إطلاق للنار، وتركت لهذا »الإرهابي الأصولي« أن يعالج الموضوع الفلسطيني كمشكلة أمنية إسرائيلية داخلية لا علاقة للعرب فيها من بعيد أو قريب..
وفي انتظار الشفاعة الأميركية التي يطلبها وينتظرها العديد من الحكام العرب فإن المشاركة في القمة العربية في بيروت يمكن أن تتم عن أحد طريقين لا ثالث لهما: إما عبر اختراق الحصار الإسرائيلي، بكلفته العالية والتي تفوق طاقة العديد من الدول العربية، وإما عبر التسليم بهذا الحصار وتلبية شروطه، فيكون الحضور إلى بيروت وكأنه »خروج« من فلسطين.
وبيروت، برغم كل أثقال الحروب الأهلية العربية الدولية التي هدمت عمارتها ولم تدمّر روحها، منصة قاتلة للراغبين في الخروج من فلسطين.
.. خصوصاً وأن درس رام الله يضيف إلى تجربة بيروت ما يفيد بأن التراجع خط لا نهاية له، وأن الاتفاقات المختلسة مثل أوسلو لا تصلح خاتمة لنضال مجيد كالذي خاضه وما زال يخوضه شعب فلسطين ولا لاحتلال استيطاني مدمّر كالذي ينفذه إرهاب الدولة الإسرائيلية لاستئصال الأحياء وأسباب الحياة في فلسطين.. العربية!

Exit mobile version