طلال سلمان

بيروت كمنصة دولية رسائل الى دمشق وتحية ديموقراطية

ازدحمت فنادق بيروت ومنتدياتها ومقاهيها وحتى الشوارع، خلال اليومين الماضيين، بشخصيات دولية وعربية سامية المقام والفكر، بعضها جاء ضيفاً على «الإسكوا» ليشارك في اجتماع رفيع المستوى حول «الإصلاح والانتقال إلى الديموقراطية»، في حين كان عدد من المناضلين القدامى في صفوف اليسار يتابعون، في ملجأ آمن، النقاش حول «هوية» التغيير الذي تشهده البلاد العربية وموقفهم منه.
بالمقابل، كان عدد من القيادات اللبنانية، روحية وسياسية، يسعى بالطروحات الفكرية، كما بالزيارات ذات الدلالة الاستثنائية إلى «أقاليم» محددة العنصر، إلى تأكيد القلق المصيري الذي يعيشه هذا الوطن الصغير في ظل نظامه الطوائفي العريق والقادر ـ برغم ذلك ـ على «إنجاب أول ربيع عربي» عبر ديموقراطيته الفريدة في بابها…
فأما ضيف الشرف الأخطر فكان الأمين العام للأمم المتحدة السيد بان كي مون، والذي اغتنم زيارته التفقدية لقوات «اليونيفيل» في جنوب لبنان، ليوجه رسالتين: الأولى توجيهية داخلية إلى جنود القبعات الزرق الذين يعيشون كما بين أهلهم وإن تعرضوا أحياناً إلى بعض ما يتعرض له المواطنون من «تعديات» هي أقرب إلى «صناديق البريد السياسية»… متعددة العنوان.
خلاصة الرسالة الموجهة إلى الجنود الوافدين الذين يحوّلهم الطيران الحربي الإسرائيلي المتجوّل على مدار الساعة في السماء اللبنانية إلى رهائن، ما نصه: «إنكم تبنون الثقة بين الجيش اللبناني والجيش الإسرائيلي»… هكذا وكأنما لبنان والكيان الإسرائيلي جاران تربط بينهما صلات من الود والمصالح المشتركة فضلاً عن التاريخ بما فيه من اجتياحات واحتلال ومذابح جماعية عنوانها «قانا».
أما الرسالة الثانية والأخطر فهي تلك التي اختار السيد بان كي مون أن يوجهها من بيروت تحديداً إلى سوريا ورئيسها والنظام فيها، مفترضاً أن القرب الجغرافي يعطي الرسالة زخماً إضافياً، بغض النظر عن الحساسية الخاصة للعلاقات اللبنانية ـ السورية، في هذه اللحظة بالذات. فلقد أطلق الأمين العام للأمم المتحدة أعنف هجماته على النظام السوري ورئيسه بالإسم، من دون أي تقدير لموقع كلامه على المسؤولين في بيروت الذين اعتمدوا السياسة العبقرية التي تتخذ من «النأي بالنفس» عن الأزمة السورية شعاراً ومنهجاً وقاعدة عمل.
اختار بان كي مون ألا ينأى بنفسه وبلبنان وحكومته النائية بنفسها عن موضوع الأزمة الدموية التي تعصف بسوريا… وقد استمرت الحكومة على سياستها الذهبية تلك، وتجاهلت حديث «الضيف الكبير»، فلم تجد وقتاً للتدقيق، بل لعلها لم تسمع وهي في «المنأى» ذلك الكلام!
أما الضيف الكبير الثاني فهو وزير خارجية تركيا ومنظّر العثمانية الجديدة السيد أحمد داود أوغلو فقد أظهر سروره أن يكون مجدداً في بيروت التي «هي بمثابة البيت الثاني للأتراك، وخصوصاً بالنسبة إليّ»…
.. وبرغم أن النظام السياسي للبنان قد جعله «بيتاً بمنازل كثيرة» فإن هذه العبارة العاطفية الحميمة تبدّت «نافرة» وغير مفهومة تماماً، إذ لم نعرف أن للسيد أوغلو مثل هذه الصلة العائلية مع بيروت، ولم ندرك السر في اختيار هذه اللحظة السياسية وبينما التوتر في العلاقات بين تركيا وسوريا في ذروته، للجهر بهذه العاطفة المكينة التي تتجاوز التحية السياحية إلى توكيد الرابطة العائلية في البيت الواحد!
ومع الشكر للسيد أوغلو الذي رأى أن «أول ربيع عربي من أجل الديموقراطية قد تحقق في لبنان الذي شهد انتخابات حرة وعادلة وتفاهمات سياسية وثقافية ومبادرات سياسية ومصالحة وطنية» فإن الكثرة الساحقة من اللبنانيين لا تعيش هذه «الإنجازات» فعلياً، وإن ظلت تطمح إلى تحقيقها… والسيد أوغلو قد عاش بنفسه تجربة مرّة نتيجة غياب هذه الإنجازات التي لا يمكن أن توصل إلى تحقيقها انتخابات نيابية وسط تهييج طوائفي ومذهبي بلغ ذروته وما زال مستقراً فوقها باعتبارها استثماراً مجزياً لمختلف القيادات الطائفية التي ترى في الديموقراطية والعدالة وسائر تجليات الوحدة الوطنية عدوها الأول. فالطائفية تدرّ ثروات بكل عملات الأرض، غرباً وشرقاً، لكن أحداً لم يعرف مثالاً لبناء الديموقراطية بالدولار الوافد، أو بالأحقاد الطائفية المقيمة.
لهذا كله، لا يمكن للبنانيين أن يأملوا في «أن تأخذ الدول الأخرى عبرة من لبنان من خلال انتخاباته العادلة والحرة»، بل إنهم ـ في الغالب الأعم ـ يدعون إخوتهم من العرب وأصدقاءهم في العالم إلى الابتعاد عن النموذج اللبناني في ابتداع «الطوائفية الديموقراطية» التي أكدت جدارتها بإشعال الحرب الأهلية مرة كل بضع سنوات.
من اللافت أن البطريرك الماروني قد أعلن، في ما يشبه الرد مصادفة على كلام الوزير التركي في خطبته في الصرح البطريركي، أمس، العودة إلى المناداة بالحياد وإلى إبعاد لبنان عن الصراعات في المنطقة، والتي قد تهدد وضعه الاستثنائي والخاص. وتأتي هذه الخطبة مغايرة لما سمعه اللبنانيون (والمسؤولون في العالم وفي واشنطن بالذات) من غبطة البطريرك الراعي، وربما كان ثمة جديد في السياسات جعله يتخذ هذا الموقف اللافت.
بالمقابل كان واحد من أبرز أبطال الحرب الأهلية التي امتدت دهراً في لبنان ينقل خبراته إلى «الأصدقاء في كردستان»، فيزور ضريح الملا مصطفى البرازاني ليتخذ منه منصة لتجديد الحديث عن الأقليات وحقها في التميّز إلى حد الاستقلال: «يذكّرني وضعكم هنا بما عشناه وما زلنا نعيشه في لبنان»… قبل أن يجول على من اختار كردستان أو اختارته ليتخذ منها ملجأ من الأكثرية في العراق، وهكذا فقد عمم الضيف نصائحه على الأشوريين والأزيديين والصابئة… كل ذلك قبل أن يكمل رحلته في اتجاه بعض أقطار الخليج العربي ليعمّم فيها ثقافة المقاومة… ولعله قد استمد مزيداً من الشجاعة بعد سماعه تصريحات حاكم قطر، خلال الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لثورة تونس، التي يتصرف وكأنه من أهلها، والتي دعا فيها إلى إرسال قوات عسكرية عربية إلى سوريا «لإنهاء أعمال القتل، إذا كان هناك ما يستدعي ذلك».. مؤكداً ما ذهب إليه المحلل الفرنسي في مجلة «لو بوان» من أن «قطر دولة عظمى جديدة»…
وكان لافتاً أن يردد الأمين السابق للجامعة العربية السيد عمرو موسى في بيروت، ما كانت الفضائيات تبثه من تصريحات حاكم قطر عن إرسال قوات عربية إلى سوريا… والحمد لله أنه حدد هوية هذه القوات فلم يطلب لسوريا ومن لبنان، مثل ما طلب لليبيا (قوات حلف الأطلسي)… في آخر قرار «قطري» تبناه وهو في موقع الأمين العام لجامعة الدول العربية. ونتمنى أن يكون تصريح موسى الجديد قد تعرّض لشيء من التحريف ليظل ترشيح نفسه للرئاسة في مصر بريئاً من مجاملة دعاة التدخل الأجنبي في أية أرض عربية… ومهما اشتدت حدة الأزمات فيها، والأزمات ـ بالتحديد ـ هي التي تضخم دور حاكم قطر إلى حدود الدولة العظمى.

Exit mobile version