طلال سلمان

بيروت شهيد شاهدا

أتمّ رفيق الحريري شهيداً إنجاز ما لم يستطع أن ينجزه وهو في الحكم، برغم قدراته الاستثنائية وشبكة علاقاته الهائلة الاتساع، عربياً ودولياً: لقد أعاد باستشهاده إحياء روح بيروت.
وبيروت ليست فقط المدينة الأم التي طالما كانت الحاضنة للبنانيين جميعاً، و»العاصمة« العربية المفردة التي يجيئها المواطنون العرب من مختلف أقطارهم ليعبّروا فيها أو من خلال التمثل عن أمانيهم وتطلعاتهم وشوقهم إلى الحرية وإلى الديموقراطية، إلى الحوار وتبادل الرأي والاستماع إلى الصوت المختلف.
ها هي بيروت، على امتداد شهر طويل من الحزن والإحساس بالفقد تحتضن لبنان كله، بمختلف أنحائه وجهاته، مدنه وقراه ودساكره، واللبنانيين جميعاً بمختلف تلاوينهم السياسية وآرائهم ومعتقداتهم وانتماءاتهم الدينية والطائفية والمذهبية…
لقد »نزل« اللبنانيون جميعاً إلى بيروت ليعبّروا بعد الحزن والغضب والإصرار على المساءلة لكشف الحقيقة عن إصرارهم على حماية وطنهم وسيادته واستقلاله… فرحبت بهم جميعاً: لم ترفض أحداً، ولم تعترض على أحد بسبب من رأيه أو مفهومه »الخاص« للحرية والسيادة والاستقلال…
… وبيروت تبدو مطمئنة وواثقة من قدرتها على أداء واجبها الوطني والقومي: فليس ثمة »استقلالان« و»سيادتان« و»حريتان« و»ديموقراطيتان«…
لقد اتسعت للأحزاب والتيارات جميعاً، وحفظت بدورها هويتها… فهي عاصمة عربية أولاً وأخيراً، مفتوحة على الدنيا بكل التحولات التي تشهدها والتي تحمل في طياتها مخاطر مصيرية، ومؤهلة لأن تختار وتقرر ما ينسجم مع طبيعتها ومع طموحها.
لم ترفض بيروت شعاراً يحمله تنظيم أو فرد، حتى لو بدا مخالفاً لمزاج أهلها ولهواهم أو لرؤيتهم الخاصة لمدينتهم.
ومع أن بيروت لم تنسَ من أساء إليها، ولكنها مؤهلة لأن تغفر، من أجل أن يتلاقى المواطنون على ما يحفظ وطنهم وعلى ما يحمي مستقبلهم فيه.
لقد عمل رفيق الحريري ما وسعه الجهد من أجل إعادة بناء بيروت، وكان رائده دور بيروت العربي ومن ثم الدولي.
حاول، ونجح كثيراً ولم يوفق أحياناً، في جعلها عاصمة عربية، يجيء إليها المال العربي ليس بدافع »الهرب« من رقابة بلاده، ولكن بقصد أن يستثمر في بعض مجالات الإنتاج التي تؤكد وحدة المصالح.
وحاول ونجح غالباً في جعلها عاصمة للعلم، تتسع جنباتها لأكثر من أربعين جامعة ومعهداً دولياً، في محاولة لاستعادة الدور الذي كان في الخمسينيات والستينيات لبعض الجامعات فيها.
وحاول ونجح أكثر من مرة، في جعلها عاصمة للحوار العربي مع الغرب، ويمكن الاستشهاد بمثل واحد في هذه العجالة هو مؤتمر الفرنكوفونية.
لكن أبرز نجاحاته تظل في تأهيل بيروت لتعود عاصمة للحوار الفكري والصراع السياسي بالوسائل الديموقراطية، بين المواطنين اللبنانيين الخارجين من دهر الحروب (الأهلية أساساً) التي قسمتهم معسكرات مقتتلة، وتيارات متصارعة، واتجاهات متقاطعة لا يعترف بعضها بالبعض الآخر.
لقد أسقطت بيروت، المجدَّد بناؤها، شعارات التخوين المتبادلة بين أطراف الصراع بالسلاح، وساهم مناخها التصالحي في طي صفحة »المخاصمة« إلى حد التخوين، وإقناع الجميع بالرجوع إلى دائرة الحوار، ولو بشكل مجتزأ تغلفه الاسترابة والشكوك بداية، إلى حين استكمال »التعارف« مجدداً بحيث يستقيم الحوار.
وحين وقع الزلزال باغتيال رفيق الحريري واشتعلت بيروت غضباً فإنها لم تحجر على نفسها محتكرة الحزن على غياب الرئيس الشهيد، بل هي رأت في الاغتيال نكبة وطنية (وقومية) تطال كل اللبنانيين (والعرب) ومن حقهم جميعاً أن يجيئوا إليها ليبلغوها أنهم في الحزن شركاء لأهلها، وأنهم في الإصرار على معرفة الحقيقة مثلها في موقع »المدعي« بصفته مثلها من ذوي الشهيد.
تحوّل الاغتيال إلى قضية جامعة للوطن، وتحولت بيروت، بشوارعها وساحاتها، إلى أرض تلاق بين اللبنانيين جميعاً: اليساري واليميني، التقدمي والمحافظ، المتدين والعلماني، المؤمن بهويته العربية والمتشكك في انتمائه القومي برغم أن كل العالم يعامله من خلاله.
أثبتت بيروت، التي تحفظ للحريري أنه قد وسع في مدى »قلبها«، إنها قادرة على استيعاب الجميع والترحيب بالجميع، طالما أنهم يجيئون جميعاً تحت راية موحدة وبالشعارات الملخصة للأهداف الوطنية ذاتها.
وحده الحكم كان الطرف الغائب،
ويا ليته ظل غائباً، إذ زاد على عيب الغياب سوء تقدير الموقف السياسي العام، وهو بالغ الخطورة يهدد سلامة البلد، كياناً وشعباً طامحاً إلى الحرية والسيادة والاستقلال… أي إلى الحياة!
فبعد سوء تقدير الموقف أو نتيجة له تعاطى باستخفاف مع مشاعر شعبه، ومع قلق هذا الشعب، ومع مخاوف أجياله الجديدة على مستقبلها فيه.
ولعل ذروة سوء التقدير تتمثل في أنه »استقال« من مسؤولياته، فتصرف وكأنه »طرف« وليس »المرجع«، واعتبر واحدة من جرائم العصر، التي هزت لبنان وكادت تهدد كيانه ووحدة شعبه مجرد »رزالة«.
لم ير إلى شعبه المشتعل بالغضب وهو يجتاح الشوارع مطالباً بالتحقيق بمشاركة جهات خارجية تعبيراً عن عدم ثقته بقضائه وبأجهزته الأمنية، واستطراداً بالحكم كله، الذي صارت »الحقيقة« شرطاً لاستمراره حيث هو…
وبدلاً من التصرف بالمسؤولية الواجبة تجاه وحدة الوطن والشعب، وبما يوفر مدخلاً إلى استعادة الثقة فيه، فإنه وضع نفسه في قفص الاتهام بتوفير المناخ الملائم لتنفيذ الجريمة، ثم بالتقاعس عن التعامل معها بما يتناسب مع خطورتها على البلاد، كياناً سياسياً، ووحدة شعب، وأخيراً بمحاولة تبرئة نفسه شخصياً ولو بإدانة الحلفاء والأصدقاء ومن بعدهم المعارضين والمعترضين جميعاً.
* * *
إن مشهد بيروت اليوم، كما الثلاثاء الماضي، كما خلال الثلاثين يوماً الماضية، مما يطمئن روح رفيق الحريري إلى أن العاصمة التي أعطاها الكثير الكثير من جهده لإعادة بنائها وجعله درة معمارية في هذا الشرق العربي، ما زالت مؤهلة للقيام بدورها كحاضنة وطنية للبنانيين جميعاً، وكعاصمة عربية متميزة واستثنائية في حيويتها.
لكن رفيق الحريري يستشعر، من عليائه، قلقاً عظيماً من أن تنقلب المبارزة في تأكيد الولاء لشعارات السيادة والاستقلال والديموقراطية إلى صراع داخلي بين المتبارزين يذهب بكل تلك الشعارات ومضامينها المقدسة.
والمهم أن تكون المباراة في الحشد مدخلاً لاعتراف الكل بالكل، والجلوس إلى الطاولة للبحث في مستقبل البلاد وشعبها، بعد الفراغ الجسيم الذي أحدثه الغياب المفجع لرفيق الحريري.
فالمزايدة يمكن أن تقسم البلاد كما المناقصة…
وبيروت التي أسعدها أن تمتلئ جنباتها براية الوطن وقد استظلها الجميع، وحدها من دون الرايات الأخرى، لا سيما تلك الهجينة والطارئة والمشوهة لمعنى الاجتماع، تتمنى ألا تحولها الشروط والشروط المضادة إلى ساحة صراع، مرة أخرى، بين أخوة قد يتمايزون في مواقفهم السياسية لكنهم لا يمكن أن يختلفوا على الوطن الذي أعيد تحديد هويته وطبيعة نظامه ومواقع كل فئة من فئاته في التسوية التاريخية التي تحمل اسم اتفاق الطائف.
إن بيروت التي احتضنت الجميع على اختلاف توجهاتهم، تتمنى أن تجمع روح رفيق الحريري بين المتمايزين في مواقفهم المتفقين على »نهائية« لبنان، ككيان، وعلى ديموقراطية نظامه السياسي، وعلى حماية المقاومة الوطنية التي حررت أرضه من الاحتلال الإسرائيلي بدماء مجاهديها الأبطال.
إن بيروت الوطنية، الشارع الوطني العربي، المنتدى الفكري ودار الثقافة والمطبعة والكتاب وصحيفة الصباح وتلفزيون المساء، للعرب في مختلف ديارهم، تتمنى أن يحفظ هؤلاء الذين نزلوا إلى شوارعها هويتها ودورها، وألا يسيئوا إليها وإلى رفيق الحريري الذي يملأ جنباتها، بتحويلها إلى ساحة انقسام ومن ثم ساحة صدام بين المتفقين في شعاراتهم المختلفين في ما قبلها أو في ما بعدها، أو حتى في دلالاتها بالذات.
إن بيروت رفيق الحريري هي الشاهدة على قدرته على الإنجاز، وعلى حجم الفاجعة التي ألمت بلبنان (وبالعرب) نتيجة اغتياله في جريمة مرشحة لأن تشكل فاصلاً بين ما كان وبين ما سيكون.
وبيروت المعتصمة بحزنها تتمنى أن تبقيها الحشود التي جاءتها والتي قد تجيء للتعبير عن الفجيعة، إلى شهيد آخر.
يكفي استشهاد رفيق الحريري من أجل قيامة الوطن،
فلتبقَ بيروت شاهداً، وليتجنب الجميع تحويلها إلى شهيد عظيم ثان.

Exit mobile version