طلال سلمان

بيروت حريري ثاني

حسم رفيق الحريري شهيداً نتائج الانتخابات النيابية في بيروت، يوم أمس، بأكثر مما حسمها وهو »معارض« بحجم استثنائي، قبل خمس سنوات إلا قليلاً.
للشهيد وهج باهر تصعب مواجهته أو تجاوزه، فكيف إذا كان في مثل وزن رفيق الحريري، وإذا كانت جريمة الاغتيال قد تمت في لحظة احتدام سياسي محلي عربي دولي قلّ أن اجتمعت لتأجيجه مثل الاعتبارات التي سبقت »الاثنين الأسود« في 14 شباط، ثم أعقبته.
ففي العام 2000 انتصر رفيق الحريري، المعارض، على »السلطة« التي قاتلته بكل أنواع الأسلحة، فوفّرت له صورة الضحية والمعتدى عليه، خصوصاً أنها لجأت إلى أساليب مرفوضة انحدرت الى التشهير الشخصي، وتجاوزته إلى من اعتبرتهم من مناصريه في »العهد السابق« الذي ساهم في استيلادها.
أما يوم أمس فإن بيروت قد أعطت رفيق الحريري شهيداً أكثر مما أعطته في حياته، سواء يوم كان في السلطة أو يوم كانت السلطة قد استعدته و»عيّنته« معارضاً بل خصماً وحكّمت في العلاقة معه قاعدة: أما أنا وأما هو، ولا مجال لتسوية أو لحل وسط!
ويصعب أن يدرج اقتراع الأمس، وهو أشبه بالتزكية، في باب الانتقام.. إنه إلى »الوفاء« أقرب، وها هي بيروت تؤكد لسعد الحريري أنها تحفظ أباه في وجدانها: لقد أعطت صوتها لرفيق الحريري الثاني بعدما غيّبته جريمة الاغتيال لتؤكد أنها قبلته رئيساً بإرادتها، وجعلته »زعيماً« بصدق عاطفتها، ولتثأر من القتلة الذين أصابوا برصاصهم لبنان في حاضره وفي غده، وفي هويته العربية ودوره الذي لا يسهل تعويضه.
بل إن بيروت قد أعطت رفيق الحريري الثاني ما لم تعطه لرفيق الحريري الأول، إذ فوّضته وهي جريح ومكلومة الإرادة بما لم تفوّض به أباه الشهيد، في التحالفات التي برّرها بالاضطرار فقبلتها منه، وإن على مضض، لأن زمن ما بعد جريمة الاغتيال جاء مختلفا جداً عن زمن ما قبلها، بل لعله جاء نقيضا له بالكامل.
لم يكن ذلك من بيروت خضوعاً للوصاية الدولية، أو انصياعاً مع ما وصفته كونداليسا رايس بأنه »حيوية ثورة الأرز«.
كذلك فبيروت لم تكن تعمل وفق توجهات الإدارة الأميركية التي وصفت الانتخابات بأنها »مثل كل الانتخابات التي تحصل في مرحلة انتقالية، فلا تكون مثالية، وإن كانت خطوة إلى الأمام«.
لكن بيروت وجدت نفسها مهيضة الجناح بالاغتيال، والانتخابات فرصة لاستعادة شيء من التوازن، بعدما خسرت من كان يستحضرها وينتصر بها.
ففي العام 2000 لم يستطع رفيق الحريري أن يوظف انتصاره الانتخابي في مشروعه السياسي. لقد انتصر على »السلطة« فأرغمها على القبول به شريكاً من موقع »المعارض«، ولقد خضعت تلك »السلطة« فأشركته، ولكنها بالمقابل عطلت مشروعه.
مع سعد الحريري الأمر مختلف. إنه يصل من موقع الخصم. يحاصر »الحكم«، برمزه الأول، بالاتهام.. بل بالإدانة: يكاد يستحيل عليه أن يتعاون معه، وليس سهلاً عليه أن يخلعه.
بل إن الحكم يكاد يكون بلا وجود وبلا أثر في العملية الانتخابية، ليس له مرشحون، وليس له ناخبون »يجيّرهم« فيقلب الدفة… وهو ليس محايداً، لكنه عاجز ومرفوض.
لقد دفع الحكم ثمن أخطائه الفادحة، قبل التمديد وبعده، عزلة وانفضاضاً للمؤيدين، حتى بات معروفاً سلفاً من يستقبل يومياً وماذا سيقول مما لا يسمعه الناس.
لم يعد طرفاً أساسياً في الحكم. بقي له شيء من كرامة الرمز. لكنه عنصر سلبي الآن. وفي المستقبل قد يتحول إلى معطِّل، إلا إذا اشترى بقاءه بدوره، فتقوم »المؤسسة« التي لم تقم أبداً: مؤسسة مجلس الوزراء، باعتبارها قيادة البلاد ورأس السلطة الإجرائية ومصدر قرارها، فعلياً لا رمزياً، ولا شكلياً على وجه الخصوص.
إن »الدولة« بلا رأس، حتى إشعار آخر.
والوصاية الدولية لا تستطيع أن تعوّض غياب الرأس، ولكنها قد تفيد من هذا الغياب لتمرير سياسات ومشاريع طالما رفضها وما زال يرفضها هذا الصوت البيروتي الذي جعل رفيق الحريري رئيساً وهو حي و»زعيماً« وهو شهيد.
* * *
لقد قبلت بيروت من سعد الحريري ما لم تقبله من رفيق الحريري، ولعله أصلاً لم يطلبه لأن التوقيت والظروف القائمة كانت تجعله من المحرّمات.
قبلت من سعد الحريري ان يضع على لائحته من لم تكن ترضى باحتمال قبولهم كمرشحين… ولعل بيروت قد ارتاحت إلى بعض التزكية التي أعفتها من حرج التصويت.
لقد قبلت منه، وهو »المدني المسلم« ان يستحضر فيحمل إلى المجلس النيابي »المقاتل المسيحي«، وكان العذر ان الخطأ السياسي الفادح الذي أدى إلى جريمة اغتيال الرئيس الشهيد، يبرر مثل هذه المصالحة، إذ تساوى بعد ذلك كل شيء بكل شيء، وضاعت الحدود بين الخصوم السياسيين، بل لعلها ضاعت بين رفاق »الخط« الواحد، فإذا هم يتواجهون، أو يتركون »معسكرهم« ذاك بخفة القط ليحالفوا خصوم الماضي وقد غفروا لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر.
* * *
الشعار الآن: »الكل إلى الداخل، وليس مقبولاً ان يظل أحد في الخارج«، إلا من أخرجته سورة الغضب، التي وجدت من يستثمرها فيعلن »الوصاية الدولية« على لبنان، خوفاً عليه من فقدان التوازن بعد انسحاب القوات السورية وأجهزة استخباراتها التي كاد يوم إتمامه يصير »عيداً جديداً للجلاء«!
في انتخابات الألفين كان للفوز معنى الانتصار على »السلطة«.
في انتخابات أمس يكتسب الفوز صورة الاستعداد لتحدي الظروف الصعبة التي سيكون على الفائز ان يواجهها بالقرار الصح، مع الأخذ بالاعتبار ان له شركاء كباراً في هذا القرار.
وليس سراً ان كثيرين ينظرون إلى هذه الانتخابات على أنها تمت بأمر عمليات دولي، لتثبيت نتائج سياسية محددة. من هنا كان ممنوعاً التوقف أمام القانون والتقسيمات الإدارية، وأمام ضيق الوقت، وأمام المعاذير المتصلة بالتحالفات الصعبة المطلوبة. كان الموعد أهم من النتائج، التي يمكن استيعابها كيفما جاءت.. خصوصاً أن الجو المضمخ بنجيع الشهيد كان يبرر خرق المحظور وتجاوز ما كان في خانة »الحرام«. ضرورات الوحدة الوطنية تبيح المحظورات السياسية، لا سيما انها موروثة من زمن الحروب، وهو زمن قد مضى وانقضى وجاء عصر جديد.
كذلك لم يكن سراً ان السفير الأميركي في بيروت لم يكتفِ بدوره العلني والمكشوف في إدارة اللعبة السياسية، بل إنه قد حضر بنفسه أمس إلى بعض مراكز الاقتراع، »ليطمئن قلبه« إلى أن كل شيء يجري وفق الخطة الموضوعة، ولو بدا كأنه يخالف الاصول البروتوكولية ويتجاوز مهام السفير.. الأجنبي!
والأهم أن بيروت التي قدمت صوتها لسعد الحريري، تفترض انها بذلك قد حفظت عهدها مع أبيه الشهيد الذي ظل يقاتل حتى النفس الأخير حتى لا تتسبب الاخطاء في هزيمة لوطنيتها، وفي هزيمة العروبة.
وفي انتظار الجولات الثلاث الأخرى من الانتخابات النيابية، والتي ستشهد توكيداً للمصالحة بين المتحاربين القدامى، سيظل السؤال مشروعاً حول النصاب السياسي الذي سيكتمل وحول وجهته الفعلية، في ظل الوصاية الدولية.
وليس مما يطمئن اللبنانيين أن يرى أهل الوصاية الدولية في انتخاباتهم ما يماثل في النتائج »الثورة الوردية« في جورجيا، أو »الارجوانية« في أوكرانيا، أو »التوليب« في قرغيزستان..
فلبنان يعرف هويته جيداً، ولن يستوردها من شعارات »الفوضى الخلاقة« التي تخرجه من أهله إلى.. المجهول!

Exit mobile version