طلال سلمان

بيروت تظاهرات ومعرض كتاب

تنتهي تظاهرة اليوم، وبغض النظر عن أعداد المحتشدين فيها، عند ضفاف المعرض العربي الدولي للكتاب الثامن والأربعين، الذي ينظمه »حارس الزمن الجميل«: النادي الثقافي العربي…
وقبل أسبوع كانت تظاهرات عدة قد انطلقت في بيروت، بشعارات مغايرة تماماً، بل هي مضادة لشعارات تظاهرة اليوم، لتنتهي عند ضفاف هذا المعرض الذي كان قيد التجهيز على امتداد عشرة آلاف متر مربع ليتسع لمئة وسبعين دار نشر لبنانية، ولأربعين من دور النشر العربية بينها ثلاث وعشرون دارا تشارك فيه للمرة الأولى، مع نماذج من إنتاج مئة وستين دار نشر ألمانية، تجيء استكمالاً للضيافة الألمانية للنتاج الفكري الثقافي الفني العربي في معرض فرانكفورت الدولي.
وإذا استمر معدل زوار هذا المعرض في حدود الخمسة وعشرين ألفاً يومياً، بينهم حوالى خمسة آلاف طالب وتلميذ، فهذا معناه أن »تظاهرة الكتاب« ستكون مفخرة بل مأثرة جديدة لبيروت.
ومن حق بيروت أن تنتصب شامخة مزهوة بأنها، وحدها من دون العواصم العربية، القادرة والمؤهلة على فتح صدرها لكل أنواع التعبير عن المواقف السياسية، بالاعتراض غالباً وبالتأييد أحياناً، وكذلك لكل الإبداعات بالفكرة والكلمة واللون والاجتهاد في توسيع دائرة الحوار حول الغد، تأليفاً وطباعة ونشراً وتوزيعاً في الداخل كما على امتداد انتشار القراءة باللغة العربية.
وإذا ما تجاوزنا المماحكات والمشاحنات حول »مبررات« تظاهرة اليوم فإنها تظل في جوهرها، ومهما قيل في منظميها وأهدافهم المباشرة منها، رداً في الشارع وبالشارع على »حرب التدخل الدولي« التي استبقت قرار التمديد، وإن كانت قد استخدمته من ثم ذريعة شكلية مباشرة، خصوصاً وقد حدد لها »التوقيت المناسب«.
… ومثل هذا الجدل العبثي في بعض طروحاته والطروحات المضادة، مفتوح ومستمر منذ أجيال حول »مشروعية« التدخل الدولي في الشؤون اللبنانية وعدم »مشروعية« التدخل العربي، وبالتالي حول نسبة »الديموقراطية« في هذه أو تلك من التظاهرات والتظاهرات المضادة، فضلاً عن وطنية كل من الفريقين المنظمين لهذه وتلك واكتمال الولاء للنظام أو النقص فيه عندهما.
وإذا ما صدقنا الاتهامات المتبادلة لانتهينا إلى نتيجة فيها تحقير للشعب اللبناني جميعاً، إذ يتبدى وكأن ليس فيه »وطني« واحد، مخلص لأرضه ومؤمن بحقه فيها في ظل توزع الولاءات بين الأهل القريبين بالجغرافيا (والمصالح) والمتهمين بالرغبة في السيطرة والتحكم والهيمنة، والبعيدين بالجغرافيا (وبالمصالح) والمبرأة حركتهم من أية شبهة غرض أو مصلحة في التدخل، فكيف بالهيمنة والاحتواء؟!
لقد أباحت (الدول) لنفسها أن تتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، جهاراً نهاراً، وعبر أرفع هيئة دولية، واستصدرت القرار 1559 من مجلس الأمن، بذريعة حماية الدستور في لبنان. وهي لم تقصر اهتمامها على حق الشعب اللبناني في ممارسة الديموقراطية، بل مدت »حرصها« إلى ضرورة القضاء على أعظم الأحزاب السياسية اللبنانية دوراً في النضال الوطني وأخطرها نفوذاً وحجماً على المستوى الشعبي، واصمة جهده المبارك في تحرير الأرض بالإرهاب، كما مدت ذلك الحرص أيضاً إلى الفلسطينيين الذين ألجأهم الاحتلال الإسرائيلي إلى لبنان، فاتهمتهم هم أيضاً بالإرهاب، وطالبت باستئصالهم مع »حزب الله« ومع »الوجود السوري« في لبنان…
أفليس من حق لبنان جميعاً أن يعترض على تدخل أجنبي فظ كانت إسرائيل، كما اعترف وزير خارجيتها، بين »منظميه«، وكانت فرنسا قائدة الهجوم في حين كانت الإدارة الأميركية المستفيد، لأنها الأقدر على توظيفه واستثماره؟!
مرة أخرى: لم يكن الدستور ولا مد الولاية ولا الحرص على الديموقراطية أهداف حرب التدخل الأجنبي، هذا مؤكد ولا يستطيع أن ينكره حتى الذين أسكرهم التدخل الدولي فرأوا أنه يقرّبهم من استعادة جنة الحكم التي فقدوها أو خرجوا منها، بالتوقيت المناسب، ليلتحقوا بالطرف الأقوى، أي »الدول«، من دون أن يتعظوا بتجارب سابقة يفترض أن تكون قد علمتهم أن »الدول« مع مصالحها التي تتجاوز الشعوب وأمانيها الوطنية والقومية بغض النظر عن الأديان والطوائف والأعراق.
مع ذلك لم يتهم أحد من تظاهروا مؤيدين لهذا التدخل الدولي الفظ بوصفه يمهد »لإخراج السوريين« من لبنان، في وطنيتهم، بل اعتبر المختلفون معهم نزولهم إلى الشارع حقاً مقدساً في التعبير عن آرائهم (حتى إذا ما افترضوها خاطئة)…
لقد كانت بين مزايا بيروت الكثيرة أنها »الشارع الوطني العربي« والمنتدى الثقافي ومنبر الحوار الفكري والمقهى والمشفى والمصرف والكتاب والمطبعة وصحيفة الصباح.
وحماية هذا الدور وإدامته والإفادة منه لا تكون بتحويل الاختلاف في الرأي، حتى على »الوجود السوري«، إلى مسرح للاقتتال لحساب »الدول« التي لا يهمها مطلقاً أن يتهدم لبنان وسوريا معاً، إذا كان في ذلك مصلحة لها.
فأما أمرنا مع سوريا فشأن داخلي، نستطيع مجتمعين أن نقرر فيه، بغير أن نخرق الشرعية الدولية أو نتهم بالخروج عليها.
وليس من الوطنية في شيء أن يحول لبنان إلى ساحة مذبحة للمجاهدين فيه من أبنائه الذين قدموا أرواحهم لتحرير الأرض، أو للمطرودين من أرضهم بقوة الاحتلال الإسرائيلي الذين أعجز النفوذ الأميركي مجلس الأمن عن إنصافهم بإعادتهم إلى أرضهم، أو إلى ميدان اقتتال مع السوريين هو أشبه بالانتحار بل أبشع منه.
… ونعود إلى التظاهرة الأخرى، الثقافية التي يقدمها معرض الكتاب، فهي تمدنا بالهواء النظيف وبالأمل وبالثقة بالنفس وبالقدرة على أداء دور لا يقدر عليه غيرنا.
للمناسبة: بلغت قيمة مجموع ما بيع من كتب في المعرض العام الماضي حوالى مليون ومئة ألف دولار.
… وقد يكون الغد موعداً للعودة إلى الواقع وإلى الانتباه إلى مخاطر التصدع والاختلاف حول البديهيات.

Exit mobile version