طلال سلمان

بيروت تستعيد شبابها مع بن بلة

مع وصول أحمد بن بله، مساء أمس، استعادت بيروت شيئاً من روحها…
فالتاريخ لا يندثر تحت ركام العمارات المهدمة، ولا تستطيع إسقاطه مرارات انطفاء التجارب الثورية قبل اكتمالها، ولا فرض المساومة والاستسلام والقمع المنظم لاغتيال روح التغيير وإرادة تحرير الأرض والإنسان.
يكفي الثوار شرفاً أنهم قد حاولوا. انهم أرادوا وجرّبوا أن يتقدموا ببلادهم وبأهلهم من ليل التخلف والاستعباد والهجانة واحتقار الذات والاستكانة لتحكّم الأجنبي،
وبيروت ذاكرة متميزة لحركة التقدم العربية ولمحاولات التغيير، بل لعلها قد لعبت دورا فريدا في التنوير وفي تأمين التواصل القومي، وفي تأكيد الأصالة الشعبية في استجابتها الحماسية لدعاوى التحرر والتحرير، والسعي لتأصيلها، موظفة غناها الثقافي وتنوعها الفكري، وهذه الطاقة الاستثنائية لجمهورها المعزز بهامش ديموقراطي عزيز الى حد الندرة، عربياً.
ومنذ أن تفجرت ثورة الجزائر في غرة نوفمبر 1954، وحتى انتصارها المجيد وقيام دولتها المستقلة في بدايات خريف العام 1962، كانت بيروت ومثلها سائر العواصم العربية تحيك قمصان الصوف للثوار، وتقدم نساؤها خواتم الخطوبة والزواج دعماً لجهاد شعبها العظيم، ويغني الشعراء والمطربون والمطربات فيها لثورتها، ويهزج الشارع لانتصارات جبهة التحرير الوطني الجزائري ومجاهدي جيش التحرير.
وحين اختطف المستعمر الفرنسي »القادة الخمسة« في خدعة مكشوفة وهم في طائرة ملكية مغربية تحملهم »للتفاوض معهم«، نصَّبت بيروت ومعظم العواصم العربية أحمد بن بله ورفاقه الأربعة أبطالاً قوميين وحمل جيل كامل اسم »أحمد« جنباً الى جنب مع اسم »جمال« و»خالد« و»ناصر«، بينما صارت الأمهات تتخاطف اسم »جميلة« و»زهرة« لأسماء المولودات الآتيات في زمن النصر والتقدم نحو الغد الموعود.
لم يحكم أحمد بن بله إلا ثلاث سنوات منقوصة قليلاً، وهو قد سجن بعد انتصار الثورة، وفي السجون الجزائرية، ثلاثة أضعاف المدة التي أمضاها في سجون المستعمر الفرنسي.
لكن بيروت، ومثلها معظم جماهير العرب، لم تنظر يوماً الى بن بله كحاكم، بل حفظته في ذاكرتها كرمز عربي عظيم لارادة التحرر والتحرير وتحقيق كرامة الإنسان العربي، وكبطل قومي يأخذها الاعتزاز وهي تستضيفه اليوم مع »المنتدى القومي العربي«.
* * *
إن لبيروت همومها الثقيلة: اخطرها همّ الاحتلال الإسرائيلي، وبعده تجيء مخلّفات ليل الحرب الطويل، وتعثر السعي إلى النهوض واستعادة الدور الذي كان في زمان مضى وضمن توازنات ومفاهيم غير التي كانت.
على أن بيروت المثقلة بالضائقة المعيشية والركود الاقتصادي والخلافات الرئاسية ووفاة الترويكا ثم انبعاثها، وانقطاع الكهرباء وتعاظم فواتيرها، وتراكم الضرائب والرسوم، وتضخم خدمة الدين، وتفاقم عجز الخزينة،
..بيروت هذه عاشت وتعيش لحظات فرح نادرة تلتمع في سمائها المكفهرة فتخفّف عن أهلها عبء المعاناة وتنعش آمالهم بأن يتبدل الحال، إن لم يكن غداً فبعد غد، أو بعد بعد بعد غد، إلى الأفضل..
بين لحظات الفرح والانتعاش زيارة البابا ومعه إرشاده الرسولي الطيب الأثر، والذي يؤكد على المسار الصحيح الواجب انتهاجه، تدعيماً للوحدة الوطنية في الداخل وللانتماء العربي للبنان بأرضه وشعبه والمؤسسات.
وبين الأسباب المشجعة على استعادة الدور والمكانة زيارة ولي العهد السعودي، وقد رأى اللبنانيون الصامدون فوق أرضهم يقاومون الاحتلال الإسرائيلي وانعكاساته السياسية والاقتصادية الثقيلة، في قدوم الأمير عبد الله بن عبد العزيز دعماً لصمودهم وتعزيزاً لارادتهم المعلنة في إعادة بناء بلادهم وترسيخ وحدتها والسعي لاستعادة بعض ما يمكن استعادته من دورها،
ثم خلقت الدورة الرياضية العربية الثامنة، ومعها إنجاز المدينة الرياضية، مناخاً صحياً واضفت شيئاً من البهجة خففت من كآبة العيش اليومي في بلد مثقل برواسب الحرب واعباء الاحتلال وافتقاد الدور وضعف الامكانات المادية، وتراكم الديون والقروض التي استدرجت تحت عنوان خطة النهوض الاقتصادي.
لقد استولد وجود آلاف الشبان العرب في بيروت حيوية استثنائية، كما اكد متانة صلة الرحم، وعزز من شرف الشعور بالانتماء الى أمة شابة برغم عراقتها، فالشباب هم النسبة الغالبة من ابناء الوطن العربي الكبير.
انها لحظات فرح كنا نحتاجها لكي نتحمل، ولكي نكمل طريقنا مع شيء من الامل بامكان تغيير القدر المفروض.
ومع ان واقعنا لن يتغير هكذا بسحر ساحر، او نتيجة لزيارة هذا القائد او ذاك، فانه لأمر جميل ان تستعيد بيروت شيئاً من روحها ومن حيويتها ومن غناها الثقافي ومن جدارتها بدور في غد، برغم كل المعوقات.
اهلا باحمد بن بله: رمزاً مضيئاً من رموز شباب الامة وقدرتها على الانجاز.
ومن يملك مثل هذا الماضي الغني بالرجال والتجارب والانتصارات والمحن له الحق في ان يأمل بغد أفضل.
وليس صحيحاً ان مستقبلنا خلفنا،
فالماضي ليس صفحات ميتة في كتاب مهمل بل هو بغنى تجاربه ودروسه المستفادة دليل ممتاز الى المستقبل الذي ينتظر اجياله المعافاة والقادرة على انجازه.

Exit mobile version