طلال سلمان

بيروت الديموقراطية بالطائفية!

كشفت تجربة الانتخابات البلدية والاختيارية في جبل لبنان، وستكشف الجولات المقبلة في سائر المحافظات ولا سيما في بيروت، وجوه خلل خطيرة في الحياة السياسية، ليس كلعبة يتوزع الأدوار فيها »المحترفون«، وإنما بمضمونها الوطني العام.
ففي بلاد الناس تأتي الانتخابات أو تتم توكيداً للديموقراطية أو تعبيراً عنها أو تكون طريقاً إليها، أو »إعلان نوايا« حول حق المواطن في أن يعبّر عن نفسه وأن يقول رأيه وأن يختار مَن يفترض فيه الأهلية لتمثيله وحماية حقوقه وتأمين مصالحه،
أما في بلادنا المهيضة الجناح، المقطَّعة الأوصال بعد، فإن الانتخابات تكاد تبدو وكأنها شكل أو إطار أو مظهر أو قناع »ديموقراطي« لسرطان الطائفية والتي استولدت الآن وباء المذهبية الفتّاك.
يمكن الآن الادعاء أن اللبنانيين قد ابتكروا »الديموقراطية الطائفية« أو »المذهبية الديموقراطية« أي أنهم »دمقرطوا« الطائفية أو أنهم »مذهبوا« الديموقراطية، مثبتين براعتهم في »تزويج الذكر للذكر« أو الجمع بين النار والماء في قبضة يد واحدة!
ولقد يكون من المبالغة أو من التجني القول بأن كل طائفة قد اختارت، أو أنها ستختار، في الانتخابات البلدية »حزبها« تحسباً أو استعداداً لمواجهة »أحزاب« أو »تيارات« الطوائف الأخرى، لكن مقدمات لمثل هذا التوجه تبدّت واضحة وهي ستتبدى أكثر غداً!
كذلك ثمة مَن لجأ إلى الحرب الوقائية، فأعلن مقاطعته لمن وجد في ولائه للطائفة أو للمذهب شبهة أو استراب بارتباطه (أي بانفتاحه) بالطوائف الأخرى، أو بزعاماتها ومرجعياتها على وجه التحديد!
مَن أراد التبسيط يستطيع أن يقول: حيث يسود لون طائفي واحد فقد انتصر (أو سوف ينتصر) المتطرّف عموماً، ديموقراطياً، وبأصوات الأكثرية من الناخبين!
… وحيث تتداخل الألوان الطائفية يصعب الائتلاف وإن اتخذ شكل الصفقة واتهم أطرافه بالتواطؤ على طوائفهم كما على الآخرين!
وها هي بيروت تدور باحثة عن نفسها، تستغيث فلا تكاد تجد مَن ينجدها، وتدوي الفضيحة في أرجاء المدينة النوارة، أميرة الصمود والمقاومة، كاشفة هشاشة الصيغة والعيوب البنيوية في نظام المحاصصة الطائفية، لا سيما عبر التطبيقات المرتجلة التي صُمِّمت أو رُكِّبت على عجل على مقاس زعماء المصادفات أو قوى من الماضي أعيد بعثها للضرورة.
إن الجميع يتحدث بوجل عن النتائج الخطيرة للانتخابات في بيروت!
كأنما »يهدِّدون« بيروت بالانتخابات! وكأنما يدَّعون الغيرة على بيروت فيهبّون لحمايتها من شر الانتخابات، بالإرجاء أو بالتأجيل ريثما يمكن اعتماد التعيين لتوكيد الإيمان بالديموقراطية كعاصم أو صمام أمان للوحدة الوطنية!
* * *
يتجمّع »التطرّف«، الطائفي والمذهبي، كروافد لنهر واحد من الماء العكر، ليصبّ في العاصمة، المعطّل قلبها بعد، والتي لما تستعد وحدتها وعافيتها.
ولأن »التطرّف« طائفي أو مذهبي فإنه يضرب أول ما يضرب النزوع إلى الديموقراطية وحق الاختيار، ويهدّد أول ما يهدّد الروابط والأواصر التي تجمع بين الناس في بلد ما فتحوّلهم من أفراد أو عائلات أو عشائر أو قبائل إلى »مواطنين«، أي إلى »شعب« له أرضه وله دولته وله حقه في الحياة فوقها وحقه في التطلّع إلى مستقبل أفضل.
ليس »التطرّف« هنا »سياسياً«، بمعنى أنه تعصّب للحق الوطني، وتمسّك بموجبات السيادة والاستقلال،
ولأنه طائفي أو مذهبي فهو ضد السياسة بما هي عمل عام واجتهاد في خدمة ما هو وطني.
إنه تطرّف قضيته ضد الآخر، أي ضد الأخ الشقيق في الوطن،
ولو كان تطرفاً من طبيعة سياسية لأمكن توظيفه (على عيبه) في خدمة القضية الوطنية (كما هي الحال في إسرائيل).
وهكذا فإن الاتجاهات الطائفية والمذهبية هي بمجموعها آفات تأكل من لحم الوطن وقضايا مواطنيه،
وفي بلد بعض أرضه محتل، كلبنان، فإن التطرّف الطائفي أو المذهبي يسيء إلى جهد التحرير، ويضر بالوحدة الوطنية فيشتّت مَن يفترض اجتماعهم لمواجهة الضغط الذي يمارسه عليهم المحتل الإسرائيلي.
إنه تطرّف ضد الأخ، ووجهه الآخر التخاذل السياسي مع »العدو«.
فبلد منقسم على ذاته لا يستطيع أن يؤدي واجبه في المقاومة كاملاً، مهما حَسُنت النيات.
* * *
إن بيروت هي الامتحان الصعب ليس للحكم أو الحكومة، بل قبل ذلك للشعب عموماً، وليس لأهلها فحسب..
إن الخوف من الانتخابات يكشف عمق الجرح،
وما هذه الدعوات المشبوهة التي تحاول صبغ بيروت بلون طائفي أو مذهبي واحد، وتكاد تحصر في فئة واحدة حق »التعيين« واحتكار »السلطة«، إلا مؤامرة على بيروت وأهلها الصابرين، وإلا محاولة لتشويهها وتزوير تاريخها.
كذلك فإن الذين ارتدوا إلى الدعوة للإرجاء بعدما عزّ عليهم »احتكار التمثيل« لهذه الطائفة أو تلك، يسيئون إلى بيروت بالمقدار نفسه،
لكأن الجميع يتستّرون خلف بيروت ويتواطأون عليها لكي تدفع ثمن خطاياهم سواء بشعاراتهم التقسيمية، أو بدعواتهم الطوباوية التي كانت تتجاهل المشكلة أو تتعامى عنها أو تغطيها بالنيات الحسنة مثل تلك التي طالما استخدمت لتبليط الجحيم!
ولأن معظم المتصدرين مفلسون سياسياً فهم ينقسمون (بالتواطؤ؟) تيارين متكاملين: أولهما ينادي بأحزاب الطوائف والمذاهب ممثلاً أوحد، والثاني ينادي بإبعاد الحزبيين (وهو لا يقصد الطائفيين) وكأنهم الطاعون!
إن معضلة بيروت، كما يجسّمها عجز الطبقة السياسية، بتلاوينها عموماً، تقدم الصورة الفعلية للوضع غير السوي وغير الصحي في لبنان وخطورة اعتلاله.
لقد تجمّعت كل ترسبات الحرب في »انتخابات« هذه المدينة النوارة، وها هي تطفو الآن على السطح منذرة بشر مستطير،
إن كل عوامل الانقسام التي ما تزال كامنة، والتي ما تزال تدمي جسم الوطن، تطل عبر هذا الجدل البيزنطي حول خطر الانتخابات وحول الديموقراطية وكأنها مفجّر لصاعق الانشطار الطائفي في بيروت،
وبرغم كل شيء فإن الديموقراطية تبقى أهون الشرين، بشرط أن تتسع للجميع، وبشرط أن يعترف الجميع بالجميع.
والرئيس رفيق الحريري ليس طرفاً ولا يجوز أن يكون.
إن دوره أن يكون، من موقعه وبوزنه، »المرجع الصالح«،
لا هو راعي اللائحة الساعية إلى الفوز، ولا هو خصم اللائحة أو اللوائح الأخرى، بل هو الساعي مع كل رموز بيروت وقياداتها والحريصين على دورها وتاريخها لأن ينصر بيروت الديموقراطية ولأن ينصر الوحدة الوطنية ببيروت.
إن معضلة بيروت موجعة، لأنها توقظ الأوجاع جميعاً (هل نامت؟)، وتستثير ذكريات الأيام السوداء،
لكن بيروت عظيمة بصمودها الوطني وبوحدتها: أليس أنها احترقت بنار الاجتياح الإسرائيلي ولم ترفع الأعلام البيضاء؟!

Exit mobile version