طلال سلمان

بيد معمر لا بيد عمرو

… فأما المشهد السياسي في لبنان فهو »سوريالي« غالباً، تحسبه مقدمة منطقية لحرب أهلية تشتبك فيها الطوائف والمذاهب بغير أفق، ثم يفاجئك بأنه مجرد جولة في »معركة« تبديل الحكومة أو تعديلها، أو في التمهيد لتمديد الولاية أو التجديد لصاحبها، أو »حملة« للحفاظ على سعر الفائدة على سندات الخزينة ومنع مكتنزيها من جني أرباح أكثر، أو أنها محاولة لتأجيج الصراع بين الرؤساء باستخدام »الدين العام« وأثقاله المنهكة كذخيرة حية تفتح باب التغيير السياسي بذريعة اقتصادية عنوانها الحرص على المكلف اللبناني البائس.
لذا سنترك مهمة الشرح المستفيض لبعض جوانب هذا المشهد الدراماتيكي المسلي، المضحك المبكي، المستعصي على الفهم المنطقي، لوزير الداخلية في حديثه المستفيض المنشور في هذا العدد والشارح لمقدماته وتطوراته ونهاياته المفترضة، من موقع »الطرف« كسياسي ومن موقع »المرجع« بوصفه »الحاكم الإداري للبنان«، كما كان يرى الراحل الكبير كمال جنبلاط في من يتسلم حقيبة »الداخلية«.
سنحاول، هنا، وانطلاقاً من واقع أن لبنان هو »رئيس القمة العربية«، رسمياً حتى نهاية شهر آذار المقبل وقبل أن يتولى الرئاسة »صاحب العظمة« ملك البحرين، ثم من واقع أن لبنان طرف مؤسس لجامعة الدول العربية، أن نقدم المشهد السوريالي العربي الذي لم يكن ينقصه للاكتمال شكلاً وموضوعاً إلا قرار معمر القذافي بسحب ليبيا من هذه الجامعة التي هانت على أصحابها حتى أهملوها وألغوا دورها وحقروها ثم اندفعوا يلومونها على تقصيرها وانعدام فعاليتها في رأب »الصدع« بل الصدوع العربية وما أكثرها، بل وما أخطرها!
والحقيقة أن »قائد الفاتح« لم يكن بحاجة لإعلان سحب بلاده من الجامعة، فهو لم يكن في أي يوم عضواً فاعلاً داخل الجامعة، كمؤسسة ذات دور »قومي«، شأنه في ذلك شأن العديد من الملوك والرؤساء العرب الذين لا ينتبهون لوجود الجامعة إلا حين تضيق بهم السبل، أو يحتاجون »غطاء« يبرّر تنازلاً أو يحسِّن موقع التفاوض مع »من بيده الأمر«… فلا بأس من التفرد، طالما كان هو الطريق الى تدعيم سلطة السلطان، ولكن ضعفه يدفعه الى الاستنجاد بأقرانه الضعفاء مثله، لعل ذلك يفتح له الباب المرصود!
… ومعمر القذافي قد احترف تفجير لقاءات القمة في أحضان الجامعة، حتى كاد يودي بالمؤسستين معاً!
ولقد وصل الهوان بهذه الجامعة التي شكلت ذات يوم أملاً للعرب الخارجين من ربقة الاستعمار إلى آفاق التحرر، بأن تكون النواة الصلبة لتلاقيهم بالمصالح قبل العواطف في إطار مؤسسة قادرة تقرّب في ما بينهم وتعيد وصل ما انقطع من أواصر الأخوة طوال دهور الاستعمار والتبعية، فتكون الطريق الى نوع من التكامل الاقتصادي (السوق العربية المشتركة) وبناء القوة الذاتية في إطار عربي فعال (معاهدة الدفاع المشترك) التي أنجبت في ما بعد (القيادة العربية الموحدة) التي أطاحت بها هزيمة 1967، فضلاً عن تدعيم الروابط التربوية وتعزيز اللغة التي كانت مهجورة، وفتح الحدود في إطار التكامل، والتعامل مع الخارج »كوحدة« سكانية مستهلكة ولكنها طامحة لأن تدخل عالم الصناعة، خصوصاً أنها تشكل سوقاً ممتازة، وتملك أراضي خصبة واسعة، وقد اشتهر أمر أهلها بالتجارة، عبر التاريخ… ثم إنها أمة شابة، تشكل ناشئتها المقبلة على العلم »كادرات« ممتازة لبناء المستقبل.
ذلك كلام في الماضي… فمن زمان تبخرت هذه الأحلام أو كادت، وصارت الجامعة إطاراً هشاً وشكلياً للتلاقي، غالباً من أجل امتصاص نقمة الجماهير الغاضبة من انعدام رد الفعل العربي الرسمي تجاه النكبات المتلاحقة التي مُنيت بها الأمة..
أما في الحاضر فإن عمرو موسى قد حاول، منذ »اختياره« أميناً عاماً للجامعة أن ينفض عنها الغبار، وأن يجدد فيها بإمكانات شديدة التواضع ما يمكّنها من لعب دور ما، مستفيداً من واقع التزام أعضائها بالقمة السنوية الدورية.
على هذا فإن أخطر ما في إعلان القذافي قراره بالانسحاب هو توقيته..
فاللحظة العربية الراهنة لا تسمح بمثل هذا الترف.
إن قرار القذافي يبدو وكأنه رصاصة الرحمة تطلق على هذه المؤسسة المتروكة لمصيرها، وقد هجرها أصحابها، لا قدرة لها على إعادة ضبط من خرجوا على قراراتها أو على إلزام من خالف قراراتها التي لا تصدر إلا بالإجماع وعلى قاعدة الجمع بين النار والماء… خصوصاً أنها مفلسة أبداً، إذ لا تدفع معظم الدول لا سيما الغنية نصيبها في موازنتها البائسة.
الجامعة ليست إلا مرآة عاكسة للوضع العربي، فإذا كان »كبار« العرب قد استقلوا بقراراتهم عنها فكيف سيكون لها دور: ذهب السادات إلى إسرائيل من خارجها، فطردت مصر من الجامعة وطردت الجامعة من مصر إلى ما يشبه المنفى التونسي، وذهب صدام حسين لغزو الكويت متحدياً الجامعة، فكان أن انقسمت الدول على بعضها ممّا جعل الجامعة رهينة لمن اتخذ القرار وجيّش الجيوش »لتحرير الكويت«، وذهبت »دول الطوق« أو من تبقى منها الى التفاوض مع العدو الإسرائيلي، تاركين للجامعة دور شاهد الزور.
أما في »اتفاق أوسلو« الذي عقد في ليل فلم يكن لها حتى مثل هذا الدور… ومع ذلك فاللوم دائما على الجامعة التي لا توحد الموقف العربي ولا تمنع معاهدات الصلح المنفرد، ولا توقف الحرب في لبنان، ولا تمنع الاجتياح الإسرائيلي له، ولا تتصدى لصدام حسين تمنعه من اعلان الحرب على ايران، ولا تأمر هواري بومدين (ومعه القذافي) بالتوقف عن ابتداع »الجمهورية الصحراوية« في سياق حربه ضد المغرب، ولا توقف اجتياح شارون مجددا للسلطة الفلسطينية ومجازره المفتوحة ضد الشعب الفلسطيني الخ..
في المفاوضات مع واشنطن لا أحد يحتاج الجامعة. وفي المفاوضات مع إسرائيل لا أحد يتذكر الجامعة. فقط في حال الفشل يدوي السؤال: أين الجامعة؟
السياسات تقرر خارج الجامعة، والعلاقات مع الخارج تتم، حربا او سلما، من دون علمها في الغالب الأعم. ومؤسسات الجامعة باتت نسيا منسيا، فلقد هرمت تحت وطأة الافلاس وانعدام الدور، او الرغبة فيه… واجتماعات مجلس الجامعة مضجرة، والكل يأتي اليها متثاقلا او كارها ومن باب الحرص على الشكل.
لقد شاخت الجامعة بسبب اهمالها ونسيانها وتقصد تهديمها. أنشئت منظمات اقليمية بديلة لم تعمر طويلا، ومن عمَّر منها لم ينتج او انتج قليلا، لكن أغنياء العرب ابتدعوا منظمتهم الخاصة، و»الأقوياء« من العرب لم يعودا إليها إلا بعد انكسارهم في حروب غير مبررة.
برغم كل ذلك فقد استعاد العرب بعض الأمل في انعاش الجامعة العربية و»اختلاس« دور ما لها مع تعيين عمرو موسى أمينا عاما جديدا… مع ان البعض قد اعتبر اختيار هذا الدبلوماسي الكفوء »طردا إلى أعلى« من وزارة الخارجية المصرية، فالتكريم الشخصي يكاد لا يخفي »الاحالة المبكرة على المعاش«.
لكن عمرو موسى ليس القضية، بل الجامعة هي القضية، وإطلاق رصاصة الرحمة عليها في هذه اللحظة خطأ سياسي قاتل.
فبينما تكاد الحرب الأميركية الظالمة على العراق تكون »خبر اليوم« وكل يوم.
وبينما تساعد الإدارة الأميركية حكومة السفاح شاون على تمزيق فلسطين، قضية عربية وشعبا وسلطة، عبر »خريطة للطرق« لا توصل إلا الى احتلال كامل أراضي هذا البلد العربي وزرعها بالمستعمرات الإسرائيلية، وطرد شعبها منها.
وبينما يتهدد خطر التقسيم وحدة السودان، بتحريض أميركي مكشوف.
وبينما تعزل مصر وتشل حركتها تحت ضغط أزمتها الاقتصادية والتهديد الأميركي المفتوح.
وبينما تحاصر سوريا ومعها لبنان المقاوم باسم كل العرب ومستنقذ شرف العرب بتحرير أرضه (وبعض مياهه) واجلاء الاحتلال الإسرائيلي.
… يجيء قرار القذافي بالانسحاب من الجامعة خاطئا في توقيته كما في تبريراته التي تفرض عليه »اقتحام« هذه المؤسسة و»جذب« الآخرين إليها، و»إلزامهم« بالتوافق داخلها.
ان »الأمين على القومية العربية« كما قال جمال عبد الناصر عن معمر القذافي ذات يوم من صيف 1970، يهرب من الحد الأدنى من التزامه القومي… وهو لا يهرب لكي يتمكن من القتال بصورة أفضل دفاعا عن شرف الأمة، سواء في فلسطين أم في العراق، بل لكي يعفي نفسه من موجبات لا مجال للتهرب منها، لأن نتائجها ستنعكس مدمرة على مجمل الأوضاع العربية، ثم على كل قطر، بل على كل مواطن عربي، حيثما كان موقعه، وكائنا ما كانت اعذاره للانسحاب من الميدان.
»بيد معمر لا بيد عمرو« تضرب آخر مؤسسة كانت تجمع بين العرب ولو على الحد الأدنى من الأدنى… مع وعيه بأن لا بديل غير الضياع على الدروب بين واشنطن وتل أبيب!
لا يا معمر. هذا خطأ. فلتكن لك الشجاعة في مواجهة الهاربين من السفينة المهددة بالغرق، بدل ان تكون أولهم، والاخطر: بدل ان تبذل جهدك لانقاذها وأهلها، الذين يتكأكأون على سطحها وقد شلهم افتقاد الشجاعة وافتقاد القرار الى مواجهة لا يمكن ان تنتهي بأسوأ مما نحن في

Exit mobile version