طلال سلمان

بياريتز آخر قمة عادية لمجموعة السبع

انعقدت في بلاد الباسك في أقصى جنوب غربي فرنسا القمة الدورية لمجموعة الدول الصناعية الديمقراطية. الصين ليست عضوا وروسيا العضو الثامن لا تشارك. الأولى ليست عضوا لأنها غير ديمقراطية والثانية لا تشارك لأنها تخضع لعقوبات على ذنب ارتكبته عندما تدخلت في شؤون أوكرانيا واحتلت، أو أعادت احتلال شبه جزيرة القرم. لذلك كانت مفاجأة للقادة المشاركين في القمة وبخاصة الأوروبيين الاقتراح الذي سربه الرئيس دونالد ترامب إلى مضيفه الرئيس إيمانويل ماكرون قبل الانعقاد الرسمي وأعاد عرضه علنا ويقضي بدعوة روسيا للمشاركة في الدورة القادمة للمجموعة في العام القادم. لم يقترح أحد دعوة الرئيس الصيني معتمدا على أن المجتمعين كافة يعرفون أن الصين طرف في حرب تجارية شنتها عليها الولايات المتحدة وربما لا يجوز مكافأتها بعرض مشاركتها في اجتماع مجموعة كان الهدف من إنشائها الدفاع عن مبادئ وممارسات حرية التجارة باعتبارها الأسلوب الأمثل في نظر قادة المجموعة لتحقيق التقدم الاقتصادي العالمي.


من ناحيتي لم أتوقع أن يحل مؤتمر هذا العام قضية من القضايا المطروحة على موائد الحوار الدولي. وأسبابي كثيرة. أولها وأهمها أن أغلب الزعماء ذهبوا إلى المؤتمر وهم واثقون من أن الرئيس الأمريكي سوف يفسد المؤتمر كما سبق وفعل في جميع المؤتمرات الدولية التي شارك فيها ومنها المؤتمر الأخير لمجموعة الدول السبع الذي عقد في كندا. هناك افتعل الرئيس خلافا وترك المؤتمر معلنا نيته رفض التوقيع على البيان النهائي. هذا الرئيس مشهود له الإصرار المتعمد لإحباط أي عمل دولي يستند إلى التعددية ويخضع لقيم مؤسسية تعتمدها قواعد عمل وأعراف دولية. هذه هي طبيعة شخصية الرجل، وأقصد الرئيس الأمريكي. أقرأ عنه مبالغات عديدة وأتابع استخدامه الواثق من كفاءة الفوضى غير المنظمة على إحباط مساعي حلفاء الوضع القائم. الوضع القائم، كما وجده الرئيس ترامب، وضع يخدم مصالح أطراف كثيرة ولا يضمن لأمريكا بالضرورة “حقها” في أن تحصل على كل ما تريد ولو على حساب الحلفاء والشركاء. أمريكا أولا. أعجبني وصفا خفيف الظل صاغه أحد الصحفيين لتصرفات الرئيس ترامب في المؤتمرات الدولية، كتب “يتصرف دونالد في المؤتمرات كطفل مدلل ومشاكس، يفترش الأرض، يرفس بقدميه ولا يتوقف عن الصراخ مرددا لا لا كلما اقترب منه أحد أو طلب رأيه أو سأله”.


كان المشهد في بياريتز ليلة وصول الوفود وخلال اليومين التاليين، حسب وصف أحد المراقبين، مثيرا للإعجاب ولكن أيضا للعجب. الإعجاب طبعا بالطبيعة الخلابة، هذه الطبيعة التي كانت وراء سعي الطبقة الحاكمة المصرية في العهد الملكي إلى اختيار هذا الموقع كأحد أهم مواقع التصييف في الخارج. محظوظة كانت الإمبراطورة أوجيني. لا يذكر اسمها إلا ومعه أسماء أشهر وأعظم الفنادق والمواقع السياحية. نعرف عنها في مصر ربما أكثر مما نعرفه عن آخر إمبراطورة آل إليها الحكم في أخر عقود الإمبراطورية الصينية وربما أكثر مما نعرفه عن كاترين العظيمة في روسيا وفيكتوريا ملكة الإنجليز في أبهى عصور الاستعمار. أظن أنها كانت نموذج التقدم كما استوحاه الخديوي إسماعيل وحريم عصره، يذكر لها أو عنها أنها عندما فقدت عرشها زارت مصر سرا في مطلع القرن العشرين بحثا عن استضافة في القصور الخديوية المصرية. وقتها كانت رياح التغيير تحمل للأوروبيين نذرا غير طيبة. دول في القارة غير راضية بما قسم لها من مستعمرات في إفريقيا وتوازن قوى دقيق يختل تحت ضربات القوى القومية الصاعدة في ألمانيا وإيطاليا والقوى اليسارية والفوضوية في أرجاء أخرى من القارة. لست وحدي من يسمع الآن صوت رياح تتجمع على البعد تهدد استقرارا هشا في أوروبا، وهناك في فندق القصر في بياريتز أرى اليأس متمكنا من رؤساء أوروبا، ومعهم السيد آبي رئيس وزراء اليابان، حتى أنهم قرروا في بداية المؤتمر عدم إصدار بيان يلخص ما توصلوا أو لم يتوصلوا إليه نتيجة مباحثات قمتهم، وما صدر في النهاية لم يخرج عن كونه من لزوم البرتوكول.


قبل ركوبه الطائرة التي كانت ستقله إلى الطائرة الرئاسية رفع الرئيس ترامب رأسه نحو السماء للحظة طالت. قال صحفيون حضروا هذا المشهد أن الرئيس أراد أن يقول لهم أنه مبعوث السماء، هو الرجل المختار، إلى مهمة مقدسة جديدة. سواء كان الرئيس يسخر من الصحفيين أو من المؤتمر الذي يستعد للسفر إليه أو كان حقا يعتقد أنه الرجل المختار أمر ليس مكان مناقشته هنا، يبقى أن الثابت لدينا هو أن الرئيس الأمريكي لم يجن لأمريكا من هذا المؤتمر إلا مزيدا من العزلة عن حلفائها الطبيعيين. الثابت أيضا أنه فشل في تحقيق كثير من توقعاته وخططه. أذكر منها على سبيل المثال ما يلي. أولا: كان الظن أن بوريس جونسون سند وحليف يعوضه عن حلفاء يكرهون أمريكا فإذا بجونسون يرتب لمزايا تخفف من وطأة الخروج من الاتحاد الأوروبي ولو أتت على حساب التحالف المطلق كسابق العهد بين أمريكا وبريطانيا. ثانيا: كان الفشل واضحا في محاولات ترامب كسر وحدة الأوروبيين حول المسألة الإيرانية، مما دفعه إلى الخروج عن معتاده مع الصين ليعلن تراجعا من جانبه في إجراءات الحرب التجارية والسكوت عن دعوة فرنسا لظريف، ثالثا، لم يحصل على ما يريد في شأن دعوة روسيا للمشاركة في المؤتمر القادم. أغلب الظن أن ترامب لن يهدأ له بال في هذا الموضوع. ترامب في أمس الحاجة لدعم روسي آخر في الانتخابات القادمة أسوة بدورها في الانتخابات الماضية وروسيا جاهزة . رابعا: راهن رئيس البرازيل، الابن اللاتيني لترامب كما يطلقون عليه في أمريكا اللاتينية، على أن فرنسا لن تحصل على تأييد المجموعة للرئيس ماكرون في موقفه من قضية حرائق الأمازون. الثابت هنا أيضا أن الرئيس ترامب لم يتمكن من تغيير موقف ماكرون ولا من تأمين دعم مناسب للرئيس البرازيلي المتمرد على أوروبا واتفاقية المناخ. ترامب لديه أسبابه الداخلية والإقليمية التي تجعله يشجع البرازيل على التمادي في عنادها في موضوع حرائق الغابات ومواجهة أوروبا. خامسا: مهما قيل في قصة وصول جواد ظريف إلى مطار بياريتز يبقى حقيقيا وملموسا الموقف الأوروبي المتماسك ضد مختلف الضغوط الأمريكية بهدف إثارة الخلافات حول الموضوع داخل المجموعة الأوروبية واليابان معها، بل وجونسون أيضا. مرة أخرى تؤكد أوروبا أنها لن تسلم نفسها طواعية لقيادة أمريكية مشكوك في سلامتها الذهنية وكفاءتها القيادية. أتطلع بشغف لمتابعة تصرفات أوروبا خلال عام بدأ بالفعل صباح يوم كتابة هذه السطور، هو العام الذي يتحمل فيه الرئيس ترامب بنفسه الإعداد للدورة القادمة لهذه القمة.


أتصور أن المؤتمر القادم، إن دعي فعلا للانعقاد في الولايات المتحدة وبدقة أقوى في فلوريدا وعلى أرض ومنشآت يملكها الرئيس دونالد ترامب، وإن استمرت خلال هذا العام مظاهر ومؤشرات على حلول لحظة النهاية، وأقصد نهاية عمل وصلاحية النظام الاقتصادي العالمي المتهالك الذي خططت له الولايات المتحدة ثم صاغته وقادته، وكذلك إن ظهرت على سطح العلاقات الدولية ما يعزز القناعة بأن الولايات المتحدة بإمكاناتها الراهنة ونوعية نخبتها السياسية وبخاصة الحاكمة لم تعد محل اطمئنان وثقة الدول الصناعية الأخرى، وإذا لم تستعد له أوروبا واليابان بمشروع لنظام جديد، وإن لم تحضره الصين أو حضرت تحت الحصار فسيكون انعقاده إيذانا بفوضي لم يشهد العالم مثيلا لها من قبل.

أوحت بعض تصرفات الرئيس ترامب خلال مؤتمر بياريتز بأن الرجل جاء إلى المؤتمر عاقدا العزم على عدم إثارة خلافا جسيما يتسبب في انفراط المجموعة أو تجميد نشاطها. لم يلب توقعات أغلب المراقبين بل ترك المؤتمر يعمل ولكن في نطاق الحدود الدنيا. أما الحدود القصوى فمجالها المؤتمر القادم في فلوريدا تحت قيادة الرئيس ترامب وتخطيطه وفي زخم حملة إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيسا لأمريكا.

Exit mobile version