طلال سلمان

بمثل هؤلاء نصنع العيد العربي…

لبست بيروت ثياب العيد، وفتحت قلبها لأهلها العائدين إليها، بعد طول غياب، للمشاركة في الدورة الرياضية العربية الثامنة.
في زمن بلا أعياد يغدو لقاء الآلاف من الشبان العرب، الآتين من مشارق الأرض ومغاربها، في عاصمتهم المشاغبة والمتمردة برغم كونها مهيضة الجناح، الصامدة برغم جراح حربها الطويلة والمريرة، حدثاً استثنائياً يستولد الفرح ويضيء شمعة على طريق الأمل بغد أفضل.
ولو أنه أمكن لهؤلاء الفتية، والملايين مثلهم، أن يعطوا ما يستطيعون أن يعطوه، في مختلف المجالات، لتبدلت الصورة الكالحة لليوم العربي، ولأشرقت شمس جديدة عفية وقادرة على كشح ليل الهزيمة الذي يُراد لنا أن نفترض أنه بلا نهاية.
فبمثل هؤلاء الفتية الممتلئين عافية وقدرة على الانجاز، والمشبعين بروح المنافسة، والمسلِّمين بأن الفوز هو حق للأكفأ والأعظم استعداداً وتدريباً وخبرة واجتهاداً وتجديداً وثقافة ومعرفة بالثورة العلمية التي تميّز هذا العصر، وتوفر لإنسانه فرصا استثنائية لتحقيق ذاته وأحلامه التي كانت تبدو معلقة خلف المستحيل، بمثلهم، نصنع العيد العربي.
لكن حروب الأخوة الأعداء، داخل لبنان ومن حولنا، سبقت افتتاح الدورة وشوّشت عليها، فأنقصت المنغصات السياسية فرحتنا بهذا اللقاء العربي الكبير الذي أملنا أن يعجّل في عودة الروح إلى بيروت، لتعزز، بدورها الذي لا بديل منه، الروح العربية التي تبدو الآن معتلة ومنقوصة، بل ومغيّبة في ظل مناخ الهزيمة السائد والثقيل الوطأة.
ولكم كنا نتمنى لو أن »الروح الرياضية« التي يفترض أن تشيعها المناسبة قد غلبت على الأحقاد والضغائن والعصبيات، فاستنقذت، لا الدورة فحسب، بل ما تبقّى من سمعة العرب عموماً، وهم الذين يُحكَم عليهم الآن بسيرة حكّامهم أو بأمزجتهم، فيعز عليهم التلاقي في ما بينهم، وتستحيل عليهم بالتالي مواجهة أعباء معركة المصير.
فمساهمة العرب في إعادة بناء المدينة الرياضية؛ الصرح الرياضي الكبير الذي دمرته إسرائيل، كان يمكن أن تكتمل أكثر بحضور العرب جميعاً، بلا استثناء.
وكنا نتمنى لو كان الكويتيون، ومعهم بالتضامن الاضطراري السعوديون، أكثر كرماً من أن يفرضوا شرطاً سياسياً غير كريم على لبنان والدورة الرياضية العربية، كمثل الامتناع عن استقبال الرياضيين العراقيين.
كنا نتمنى لو وفّروا على لبنان، وعلى الكويت ومَن معها، مثل هذه الفضيحة السياسية والأخلاقية التي كادت تذهب بمضمون الدورة الرياضية العربية وجدواها، وهي فضيحة منع الرياضيين العراقيين من الدخول والمشاركة، ولو رمزياً، في هذا اللقاء العربي الكبير، وتركهم يبيتون في عراء الوعر والشوك والصد »الأخوي« عند مركز الحدود اللبنانية السورية.
فليست هذه عقوبة لصدام حسين وغزوته »الميمونة« للكويت التي ذهبت تقريباً بالحاضر، وربما بالمستقبل العربي،
بل هي جاءت عقوبة لكل مواطن عربي، يستوي في ذلك اللبناني والمغربي، السوري واليمني، المصري والجزائري، الكويتي والسعودي، إضافة إلى العراقي نفسه.
أكثر من هذا: لقد استولدت هذه الفضيحة عطفاً عارماً على الشبان العراقيين المرميين على »التخم« بين العروبة الجامعة وبين الأنظمة المفرّقة. قد يكون صدام حسين بين المستفيدين منها، أو أنه لن يكون قطعاً من بين المتضررين.
كذلك، فإن الجدل الذي أثير في الداخل حول اسم المدينة الرياضية، لم يكن عقوبة متأخرة لكميل نمر شمعون، بل لعله أسهَم في إعادة شيء من الاعتبار إلى ذلك السياسي المتقلّب الذي دخل المسرح من باب بريطاني بالكوفية والعقال بوصفه »فتى العروبة الأغر«، وخرج من الباب الإسرائيلي بوصفه أحد أبطال الحرب الأهلية التي اغتالت السياسة بالطائفية، ممهدة لحروب لا تنتهي بين الأخوة، وليس بينهم مجتمعين من جهة، وبين عدوهم الواحد، من الجهة الأخرى.
* * *
مع ذلك، وبرغم ذلك، لا بد من أن نستنقذ ما يمكن استنقاذه من هذا العيد »العربي« الذي انتظرته بيروت طويلاً لتعود إلى أهلها وتستعيدهم وتكمل معهم الطريق إلى دورها العتيد الذي لا يكون إلا بهم.
ومع أن بيروت لم تستعد لياقتها الكاملة بعد، فإنها مؤهلة لأن تكون أرض اللقاء بين العرب الذين تكاد تشتتهم المصالح الأجنبية والمخاوف من عجزهم عن مواجهة أسباب ضعفهم.
فبيروت ليست فقط أميرة الحزن العربي النبيل، بل هي الآن، وبوهج الدم المقدس للمقاومة اليومية للاحتلال الإسرائيلي، تستطيع أن تؤكد القدرة على الفعل إذا ما أطلقت الإرادة لمواجهة العدو بدلا من الغرق في الحروب المفتوحة بين الأخوة لتوفر لكل منهم العذر للخروج من الميدان الصحيح.
أهلاً بالرياضيين العرب في عاصمتهم الجريح،
وتحية لأولئك الفتية العراقيين على الحدود الذين يعاقبهم أخوتهم بالإبعاد، فتكون عقوبة ثانية بعد العقوبة الجماعية التي تسبّبت بها قيادتهم.
ولسنا نجد لأنفسنا عذراً غير لفت الأنظار إلى أننا نتحمّل العقوبة ذاتها بإبعادهم عن دورتهم، وعنا.
ومرة أخرى نقول: بمثل هؤلاء الفتية الأقوياء، وأعدادهم بعشرات الملايين، يكون العيد… لو سُمح لهم أن يصنعوا لنا العيد!

Exit mobile version