تشعر أحيانا أن عيشك في لبنان، قصاص لك. كل شيء ليس لك. ظلك ليس لك. تقنع نفسك بالفشل. تستنكر وجودك كإنسان مهدور. عقلك عملة بائدة. المجد، كل المجد، لما تكرهه وتستنكره وتنأى عنه. أحيانا ترفض عجزك. تعلن عصيانا. لا يسمعك أحد. الصراخ لا يجدي. هذا البلد ممنوع عليك الا إذا كنت مطيَّة، الا إذا كانت لست أنت.
لِمَ كل هذه التعاسة؟ لِمَ كل هذا البؤس؟ الحياة تسير على هواها. السياسيون على موعد يلائمهم يومياً. لا ينقصهم شيء. انهم يملأون الكلام ويحصدون الايام غِلالاً. لا تجدهم الا قبائل أنيقة الحضور. تتذكر المومياءات عندما تراهم يمثلون ادوارهم وينتعلون قضاياهم. صورة من صور الانحطاط لا مثيل له. مسموح لهم الارتكاب بكل فروعه: سياسة، اقتصاداً، مالاً، تربية وهلم جراً. مبدعون حقاً. لا يسبقهم أحد إلى التفاهات. العيب في الأصل، أي في الانتماء.
نقول: كفى نوما، ثم ننام. نقول: الآن الآن. ثم تمر الأعمار ولا يأتي أي غد. نقول: سنكون يوماً ما نريد. ثم، يريدون لنا ما يكون. نقول ما نشاء ويرددون ما يشاؤون. الافضلية لهم، لأن طريقهم مكتظة بخطوات الزاحفين خلفهم. هم الذين كانوا، وهم الآن، وهم كل أوان. فماذا تبقى لنا؟ أو، ما العمل؟
لا. ليس الامر كما مرَّ أعلاه. هنا، عندنا من يملك الشجاعة ويتبنى قضية. قضية كتلك القضايا التي تتفرع عن الحرية، كتلك القضايا التي تستحق الحياة، كتلك القضايا التي تجعلك، تكون اولا تكون، والمسألة أنّك تكون. من ينظر الى موقع قدميه لا يرى امامه، من يتطلع إلى الافق يرى الطريق قصيرا.
قوى الاعتراض تملك المظلومية. تشعر انها على حق. تفكر بالحلول. تعترض في الشارع. الأعداد غير كافية. اليافطات أقل الايمان. إقفال الطرق لا طاقة لهم عليها. يتحدون قليلاً ويختلفون كثيراً. قوى الاعتراض تحتاج إلى تجميع قواها. غير كاف ما لديها. صعب جداً أن تصير بقامة التحدي. قوى السلطة تملك دولة لها ومالاً ليس منها واعلاماً يتدفق تأييداً وخبثاً، وأحلافاً عابرة للحدود، وأعداداً من المؤيدين يسيرون خلفها خذو الجبهة بالجبهة.
قوى عاتية. تذهب إلى الانتخابات مطمئنة. همها زيادة حصتها. التخمة لا تشبعها. كل خلاف بين الطوائف تكسبه الطوائف. لا رهان يرجى باتفاقهم او بصراعاتهم. وجوه قبيحة لعملة رائجة. الطائفية رأسمال لا ينضب. رأسمال جشع وعنيد ومستبد ومتسلل. من دونه لا تصمد سلطة. الطائفية رأس مال الفساد، والفساد دين الدولة الوحيد، وكل “القديسين” المزيفين يحرسونه ويستخدمونه. هذه دولة لا دين لها، ولكنها متدينة طائفياً من أعلى قمة الفساد إلى أخمص قدمي الظلم.
ماذا تفعل قوى نقية علمانية، مدنية، ديمقراطية، شفافة، تؤمن بالعدالة وحقوق الانسان والقضاء النقي المستقل؟ من أين تبدأ معركتها؟ الانتخابات النيابية، بأسوأ قانون انتخابي، لا يُولد الا من عقول جهنمية. معركة مبهمة. قد تحظى قوى الاعتراض بالفتات فقط. حتى الآن، لم تجترح هذه القوى اسلوباً لتجميع قواها، لتصبح القوة التي لها القول الفصل والفعل الفصل، في اثبات حقوق اللبنانيين.
هل تكون القطيعة مع النظام وأركانه وزبانيته هي أولاً؟ هل تكون المنازلة لاستنزاف السلطة وأجهزتها؟ هل يمكن تهديد القوى الطائفية بطريقة ما؟ هل يمكن اخافتها؟ او عقلنتها؟ أو..
لا جواب بعد. ساعة التغيير متوقفة. الزمن زمن طائفي. وفي كل الاحوال، لا بد من إقلاق راحة هذا النظام وزبانيته، بالتي هي أسوأ.