طلال سلمان

بعد فلسطين وقبل عراق حرب رئيسين في لبنان على دور سوري

بينما العالم كله مشغول بمشروع الحرب الأميركية الظالمة على العراق، وهو عدوان مباشر وصريح لا تستقيم تبريراته مع استهدافاته، ينشغل اللبنانيون بمتابعة التفاصيل (المهينة لعقولهم كما لكرامتهم) لجولة جديدة من جولات الحروب المفتوحة بين أهل الحكم والتي تحقِّرهم مرتين: بداية باستهدافاتها الأصلية، ومن ثم بتبريراتها التي تذهب بالدستور والعرف والقوانين ومعها كرامة الشعب ومطالبه الحياتية وحقوقه المشروعة في وطنه.
في العالم: تنزل جماهير الشعوب المختلفة القوميات والألسنة والعواطف إلى الشوارع، بدءاً بمدن الولايات المتحدة الأميركية مروراً بأوروبا (وبعض الأقطار العربية، ولو على استحياء) تتظاهر ضد مشروع الحرب الأميركية التي »تبرّر« نفسها بأنها إنما تريد بناء الديموقراطية في العراق بالاحتلال العسكري.
وأما في لبنان فقد أبطل أهل الحكم، في جملة ما أبطلوا من مقومات الحياة، سلاح التظاهر نفسه، فصادروا الشارع لحساب حروبهم، وبات بوسع كل »رئيس« أن »يحتل« الشارع بأنصاره لفترة، ثم يخليه »للرئيس« الآخر، وهكذا يتواطأ الطرفان موضوعياً على »الجماهير« حتى كاد الأمر ينتهي بها إلى التظاهر ضد مطالبها لتنصر مرة هذا على ذاك ومرة أخرى ذاك على هذا… وبديهي، والحال هذه، أن تكون هذه »الجماهير« هي الخاسر الوحيد في حرب بين »رئيس ممنوع أن يُهزم تماماً« وبين »رئيس يضيّع احتمالات ربحه بطمعه في تحقيق نصر مستحيل«!
لقد باتت »التظاهرات« في لبنان بين »الظواهر« الفريدة في بابها، حتى لكأنها »طرائف«، وبات السؤال الذي يطرح نفسه مع الإعلان عن أي دعوة للتظاهر: مع من، هذه المرة… وليس ضد من!!
ولقد اتسعت التظاهرة الأخيرة لباريس 2 ودولها جميعاً، ولبواقي العمال وصغار الكسبة وكذلك للمصارف والوزراء، حزبيين و»مستقلين«، ولنواب البواسط ونواب الأنابيب، ولم يغب عنها إلا الداعون إليها ومن كانوا في حكم المدعوين إلى الإصرار على حقوقهم الطبيعية البسيطة!
نحن أمام ثلاثة أنواع من الحروب:
1 حرب إبادة لفلسطين، شعباً وقضية وأرضاً، تجرف في طريقها، إضافة إلى البيوت والأشجار والورش الصغيرة والمدارس والجامعات، »السلطة« المتهالكة…
وشعار هذه الحرب الإسرائيلية في فلسطين وعليها، لا يختلف كثيراً عن شعار مشروع الحرب الأميركية على العراق: الديموقراطية بالاحتلال، مع إضافات شارونية بوشية مشتركة تطالب »السلطة« المحاصرة في ملجأ بلا كهرباء ولا مياه بالإصلاح السياسي والتطهير لإنهاء الفساد والفاسدين والرشوة والمرتشين، بعد القضاء على »المجاهدين« لأي تنظيم انتموا وكائنة ما كانت أعمارهم ما بين الطفولة وأعتاب الكهولة، مع عدم استثناء النساء والفتيات اللواتي اغتيلت أحلامهن الوردية وضاع الهوى والشباب تحت جنازير دبابات الاحتلال!
2 وحرب الديموقراطية بالاحتلال في العراق، بل عليه وعليها معاً.
وهي حرب أميركية إسرائيلية أيضاً، تتخذ من النظام العراقي عنواناً، ولكن الأنظمة العربية الأخرى ترى أنها مستهدفة بها وفيها أيضاً، فيبادر المبادرون ملكيين على وجه الخصوص إلى رفع شعارات »ديموقراطية«، ويتحدثون عن ضرورة قيام مجالس نيابية بالانتخاب، وتحقيق نوع من مشاركة »الرعايا« في السلطة (من دون الثروة، حتى إشعار آخر!!).
وثمة ترابط واضح بين هاتين الحربين المفتوحتين على العرب: الأولى باسم فلسطين وتحت القيادة الشارونية الإسرائيلية بتغطية نارية وسياسية أميركية، والثانية تحت عنوان العراق، وهي أميركية تحت قيادة الإدارة البوشية التي لا تنكر أنها تنتمي إلى »صليبية جديدة« تشكل فيها الصهيونية الشريك بالعقيدة والمصلحة.
وإذا كانت الحرب الإسرائيلية على فلسطين قد أحرقت »خريطة الطريق« إلى الدولة الفلسطينية، فإن الشريك الاستراتيجي لشارون، ممثلاً في الإدارة الأميركية، قد حوّل اجتماع لندن وهو فولكلوري أصلاً إلى مهزلة… هاتفية!
.. وأما الحرب الثالثة، أي »حرب الرئيسين« في لبنان، والتي شهد القصر الجمهوري في بعبدا، مساء أمس، جولة جديدة من جولاتها المفتوحة منذ أربع سنوات والمرشحة لأن تتواصل متقطعة لسنتين إضافيتين، على الأقل، فقد تجاوزت حدود المهزلة وباتت تشكل منبعاً لمسلسل من الإهانات لعقول اللبنانيين، ومن العبث في أرزاقهم، ومن التهديد الجدي لمستقبلهم في بلادهم، بل ولعلاقتهم ببلادهم التي لم تستطع أن تحفظهم فيها فكان عليهم أن.. يبدلوا أحباباً وأوطاناً!
ولعل أسوأ ما طرأ على هذه الحرب من إضافات مبتكرة: إدخال بعض الدول العربية الكبرى، كالسعودية، طرفاً فيها، ولو بشكل غير مباشر وعبر تلك »المعركة الفاصلة« التي نشبت من حول محطة تلفزيونية، بل من حول »برنامج« حواري بشكل ما، في تلك المحطة، فكادت تضيّع الحكم كله مع أنه كان حتى تلك اللحظة لا يظهر اختلافاً بين رأسيه حول العلاقات مع الدول العربية عموماً، وبالذات منها السعودية.
ليس اكتشافاً أن نقول إن حرب الإبادة الإسرائيلية على فلسطين، أرضاً وشعباً وقضية و»سلطة« متهالكة، إنما هي حرب على العرب جميعاً في كل أرضهم، وفي كل دولهم المحصنة، سواء تلك التي تعيش أسيرة أوهام الخلاص بالتحالف (القديم والمنسي الآن) مع الولايات المتحدة الأميركية، أو تلك التي تفترض أنها بعيدة بالجغرافيا أو بالعجز عن التأثير.
كذلك ليس اكتشافاً أن نقول إن إسرائيل شريكة في حرب الاحتلال بالديموقراطية التي تحضّر لها الولايات المتحدة ضد العراق… وها هو شارون يطمئن الإسرائيليين إلى أنه تلقى من إدارة بوش الضمانات الكافية بأن إسرائيل ستكون بين الغانمين، وما بطاريات الباتريوت الجديدة إلا ما يظهر من جبل الثلج والمخفي أعظم، وهو يتجاوز العراق (بعد فلسطين) إلى أبعد نقطة في جغرافية ما كان يسمى »الوطن العربي الكبير«.
وبالتأكيد فإن الجهد الذي تبذله سوريا الآن، ومعها إيران وتركيا، ودول الجوار العربي الأخرى، من أجل عقد اجتماع سداسي يحاول منع الحرب الأميركية على العراق، يشكل عملاً سياسياً من الدرجة الأولى، ولا بد من أن يعطى الجهد كله لإنجاحه لعل وعسى…
على هذا فإن إشغال سوريا بحروب الرئيسين المفتوحة، ومحاولة إغراقها مرة أخرى، في ركام التفاصيل اللبنانية التي لا تنتهي، يشكل في هذه اللحظة تحديداً، خطأً سياسياً قاتلاً يرتكبه الرئيسان… وهو خطأ في حق لبنان، أولاً، وفي حق سوريا ثانياً، وفي حق العراق بل ومجموع العرب دائماً.
إن هذه »الحروب« التي كشفت عورات الحكم جميعاً، قد أساءت أول ما أساءت إضافة إلى اللبنانيين إلى سوريا ودورها الحيوي الضروري والمطلوب لاستنقاذ ما يمكن استنقاذه من حقوق العرب ومن كرامتهم في فلسطين، وفي العراق، فضلاً عن حماية سوريا ذاتها ومعها لبنان.
ثم إن هذه »الحروب« قد أعادت إلى المسرح اللبناني الأحاديث التي لا تنتهي عن »التدخل« السوري في الشؤون الداخلية، وهي نغمة كانت قد تضاءلت في الفترة الأخيرة… وبعدما خلا الجو للحكم برأسيه المتصادمين إذا به يحمل خلافاته اليومية إلى دمشق يشغلها بتفاصيلها، فيضيف إلى همومها الثقيلة هماً جديداً، سخيفاً في معطياته ولكنه معطِّل بتفاصيله وحساسياته وانعكاساته على المناخ الداخلي الذي لا يمكن وصفه »بالصحي«، في أي حال.
ومن العبث الغرق في تفاصيل الخلافات تمهيداً للخروج بقرار منصف، فكل من الرئيسين مسؤول، وكل من الرئيسين مخطئ، وكل من الرئيسين يهتم بنفسه وينسى موقعه أو بالأحرى مسؤولياته تجاه شعبه وتجاه »معينه« و»مصدر قوته« التي يجربها في فقراء الله من اللبنانيين.
إن اللحظة أكثر حراجة من أن تتحمّل مثل هذا الترف الرئاسي المبتذل!
وإن اللبنانيين أكرم بكثير من أن تلحق بهم الإهانة كل يوم والناس يتسلون بسيرتهم ويتندرون بالحروب على قمة الحكم في بلادهم المثقلة بالدين وخدمة الدين وخدمة المتسببين بالدين والعاجزين عن وقف مسلسله المخيف.
والمسؤولية في نظر اللبنانيين مشتركة: عن الحكم كما عن حروبه المفتوحة، كما عن همومهم التي لا تجد من يعالجها في قمة السلط

Exit mobile version