طلال سلمان

بعد سنة دهر

بين 26 نيسان 2005 واليوم، 26 نيسان ,2006 سنة أطول من دهر..
لقد دار الفلك خلالها بلبنان وسوريا فنقلهما من مدار واحد إلى مدارين متعارضين في التاريخ كما في الجغرافيا (ترسيم الحدود)، في السياسة كما في الاقتصاد (القطيعة مجدداً)، وصولاً إلى العلاقات الأسرية، فكاد القريب يُنكر قريبه، وكاد النسيب يتنصل من نسيبه، وكادت الحدود التي كانت رمزية تصبح سداً مانعاً للتواصل بين من كان التمني قد جعله يبتدع للعلاقات المميزة بين البلدين شعار شعب واحد في دولتين !
ولسوف يبقى هذا اليوم، 26 نيسان، محفوراً في ذاكرة شعبين كانا شقيقين ففرّق بينهما الخطأ، وجيشين كانا حليفين في العقيدة والهدف فكادت الوطنية المنتكسة بالدم إلى عصبية قاربت العنصرية، تجعلهما يتواجهان بالسلاح لولا أن انتصرت الحكمة بالمصلحة أكثر مما بالعاطفة.
كانت جريمة اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005 من الهول بحيث صارت خندق دم يفصل بين الأخوة… فقد استولد سوء الإدارة السورية الشبهات، والشبهات استدرت الاتهامات، والاتهامات استدرجت الدول .. وكان بديهياً أن تستغل الدول الدم المهدور غيلة، والشبهات التي تحوّلت إلى اتهامات لا تجد من يدحضها بالدليل القاطع المؤكد لعمق العاطفة التي تحمي ولا تقتل، فضلاً عن المصالح التي يحفظها التواصل حتى مع اختلاف الرأي، ومراجعة نقاط التعارض التي حوّلها سوء تقدير الموقف من أخطاء إلى خطايا.
ولم يكن غريباً أو مفاجئاً أن تستغل قوى معادية في لبنان الأخطاء ومعها العاطفة المتفجرة بالغضب فتستثمرها في السياسة وفي استحداث انقلاب كاد يكون شاملاً لولا حقائق الحياة والطبيعة التعددية في المجتمع اللبناني، وتغلب الوعي على نزعة الثأر عند أصحاب القرار فيه، وبعض الرعاية العربية لمنع التدهور في الموقف إلى ما يشبه الحرب المفتوحة من دون إعلان.. (براً وبحراً، جبلاً وساحلاً، شرقاً وشمالاً)!
كذلك لم يكن غريباً أو مفاجئاً أن يتجرأ أصحاب الأغراض السياسية على المقاومة وإنجازها التاريخي بتحرير المحتل من الأرض، وأن يقرعوا لها جرس الانصراف وتسليم سلاحها وكفى الله المؤمنين شر القتال..
لكأنما هذه المقاومة كانت تعمل بالأمر أو بالأجر، وأنها اكتسبت رصيدها بل وهجها الباهر بالخطابة أو بالكتابة، وليس بدماء شهدائها وعذابات أسراها وبالصمود العظيم أمام قوة الاحتلال الإسرائيلي العاتية مدعومة بالدعم الأميركي المفتوح..
ولأن الجريمة النكراء التي استهدفت رجل العرب الدولي والذي كان قد لعب لفترة طويلة بالتبرع أو بالطلب دور وزير الخارجية الأكسترا للرئيس الراحل حافظ الأسد، و رجل المهمات الدقيقة لسوريا في عواصم القرار التي لم تسلِّم بالدور الاستثنائي لدمشق، في المنطقة..
.. ولأن الجريمة ربطت بخطيئة التمديد التي لم يكن يبرّرها أي منطق، حتى لو كان ذلك القائل إن المؤامرة الدولية كانت من الخطر بحيث أباحت المحظورات واستوجبت الثبات في مواقع الدفاع، ولو مكشوفة ومتصدعة…
.. ولأن قرار الانسحاب التدريجي والمنظم والحافظ لكرامة الجيش العربي السوري، حامل وسام حرب تشرين التحريرية قد تأخر عن مواعيده الطبيعية، فتحوّلت المطالبة (القديمة) بوجوده إلى إلحاح راهن على خروجه.
.. ولأن التعامل مع القرارات الدولية، عموماً، وبالذات ما يتصل منها بالتحقيق الدولي في الجريمة التي صارت محوراً للاهتمام العربي والدولي والشغل الشاغل لمجلس الأمن، والمعبر الإجباري للعلاقات بين لبنان وسوريا، لم يكن بالجدية المطلوبة ولم يأخذ بالاعتبار تبدل الظروف وتغيّر المشاعر وهي الأخطر.
لهذا كله ولأسباب عديدة حفلت بها التجربة الفريدة التي بدأت إنجازاً وانتهت انتكاسة قومية ، تفجّرت عواطف النقد في وجه المسؤول عن أمن البلاد والعباد بركاناً من الغضب أخذ الناس إلى ما يشبه الثورة ضد الوجود السوري ، وهكذا تحوّل الانسحاب بالتوافق والرضا إلى جلاء بالإرغام، وفرض على الجيش العربي السوري أن يغادر بصورة لا تليق بتاريخه ولا بموقعه الأصلي في قلوب اللبنانيين، ولم يعاقب بمثلها جيش الاحتلال الفرنسي عشية إجلائه مرغماً، وبفضل ظروف دولية
معروفة عن لبنان ثم عن سوريا قبل ستين عاماً بالتمام والكمال.
اليوم، وبعد سنة من انسحاب آخر جندي سوري من لبنان الذي تحوّل عند كثرة من اللبنانيين إلى عيد جلاء جديد، ينتصب جدار الشوفينية عالياً بين البلدين اللذين كان شعباهما يتطلعان إلى التكامل فإذا بهما في هذه اللحظة يتواجهان في مجلس الأمن الدولي ويتقاذفان الاتهامات من فوق جدار القطيعة التي تستولد الجفاء فالكراهية، فالتنكّر للهوية العربية الواحدة للشعبين.
اليوم، بعد سنة من 26 نيسان ,2005 نجد البلدين في حالة اعتلال.
فلا سوريا تكون بخير إذا كان لبنان معتلاً أو مختلة توازناته الدقيقة، ولا لبنان يكون بأفضل حال إذا كان سد من الكراهية يقوم بينه وبين سوريا.
لا بد من رفع الدم المهدور، بالعدالة، وليس بنزعة الثأر، أو بنزعة المكابرة والتشفي، يمكن أن يردم خندق القطيعة الذي لا تفتأ تعمقه الأطماع الدولية والأغراض والأحقاد السياسية والشخصية.
والفصل بين التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبين العلاقات بين لبنان وسوريا خطوة واسعة في الاتجاه الصحيح.
لكن نزعة الانتقام التي تصدر عن أغراض السياسيين، والتي تستنفر في سوريا العصبية دفاعاً عن الوطن فتعزز النظام، ليست هي المدخل الصحي لا إلى كشف الحقيقة ولا إلى استنقاذ العلاقات الأخوية.
وما لم تعالَج هذه العلاقات بالجدية الحافظة للكرامة الوطنية وبالمسؤولية الحافظة لوحدة المصير، مهما تباينت المواقف السياسية، لن يستطيع مؤتمر الحوار أن ينجز المهمة التاريخية شبه المستحيلة التي انتدب لإنجازها.
وبعد أن تهدأ احتفالات الجلاء ، يمكن الحديث بالمنطق؛ أي بالمصالح وليس بالعواطف، وبروح المسؤولية وليس بالنزعة إلى استثمار الدم المسفوح لتغيير ما لا يتغيّر: التاريخ والجغرافيا وصلات الرحم.

Exit mobile version