طلال سلمان

بعد انتفاضة قبل ثورة

… وتلاقينا كعادتنا كل عام، في الموعد السنوي اليتيم وفي المكان الوحيد الذي ما زال ـ حتى اللحظة ـ قادراً على استقبال هذا الحشد من الإعلاميين والإعلاميات العرب الآتين من مختلف ديار المشرق والمغرب والمغتربات التي تكاد تصير لبعضهم أوطاناً بديلة: «منتدى الإعلام العربي» الذي ينظمه كل عام «نادي دبي للصحافة».
كان بديهياً أن يختلف اللقاء عنه في السنوات السابقة: فمعظمنا أتى مثقلاً بتجربة جديدة استولدتها الشهور القليلة الماضية التي شهدت ما يمكن اعتباره ميلاداً جديداً لشعوب عربية عدة، عبر الانتفاضات المجيدة التي أطاحت العديد من الأنظمة العاتية التي شاخ رموزها في السلطة ولم يغادروها إلا بعدما أنهكوا الدول حتى كادت تندثر، في حين استشرست أنظمة أخرى في مواجهة شعبها غير عابئة بتعريض الوطن جميعاً للتفكك في جحيم الحرب الأهلية التي يرى الأعمى ألسنة نيرانها تطل عبر الأفق المسدود.
تدفقت الأسئلة أنهاراً ولا أجوبة حاسمة، لا عند الآتين من الميادين التي نجحت جماهيرها في فرض التغيير بإسقاط رأس السلطة، ولا عند الذين تركوا بلادهم والمنازلة مفتوحة بين النظام والشعب الذي يريد إسقاطه..
وكنا، نحن اللبنانيين، في منزلة بين المنزلتين: لا نقدر على إسقاط النظام ولا نقدر على حماية الدولة. نعيش في قلب حرب أهلية غير معلنة ونعلق آمالنا على «الدول» التي لا يمكن أن تستغني عن بلدنا الصغير والجميل لأسباب تتصل بمصالحها وليس بآمالنا في التغيير.
كانت الصدمة الأولى أن «ضيف الشرف» لهذه السنة، وهو رئيس حكومة الميدان في مصر الثورة قد شغلته المخاطر التي تتهدد وحدة الشعب المصري ودولته التي تتناقص مواردها فتؤثر على قدراتها في مواجهة المطالب الاجتماعية الملحة فضلاً عن الالتزامات ذات الطابع الدولي، وهكذا فقد اعتذر عن عدم القدوم مكلفاً وزير الثقافة بأن يلقي كلمته..
صار الغياب بأسبابه المعلنة دليلاً قاطعاً على صعوبة إنجاز المهمة الثورية بدولة مهترئة الأجهزة، يتآمر العهد المباد فيها على العهد الجديد بالتخريب المقصود والفتن المدبرة بعد تهريب الثروات الحرام التي استنزفت القدرة على المباشرة في بناء الغد الأفضل، وبالسرعة التي يلح في طلبها «الميدان».
وفي حين كان الزملاء التوانسة يبالغون في طمأنتنا إلى أن ثورتهم تتقدم بخطى وئيدة إلا أن عودة تونس إلى عزلتها وتجدد النقاش فيها حول الوجهة وهل ستتخذ طريقها نحو الشرق أم ستظل تجد في أوروبا عناصر جذب تشدها إليها، ثم حول طبيعة النظام الجديد، كل ذلك كان يترك النقاش مفتوحاً على احتمالات متعددة من شأنها أن تذهب بالحماسة. أمام الثورة طريق طويل بعد.
الزملاء اليمنيون كانوا يدركون، سلفاً، أنهم لن يحظوا إذا ما شكوا من إهمال بلادهم إلا بتعاطف محدود: نحن فقراء إلى حد أن أحداً لن يهتم إذا ما قُتلنا وتشلّعت بلادنا دويلات تتوزعها قبائل مع «القاعدة»! لو أن النفط عندنا كان أغزر لحظينا بمثل ما حظيت به ليبيا، ولجاءت أساطيل القوى العظمى لتحرر منابع الذهب الأسود من الحاكم الطاغية وأبنائه ومن الشعب معاً. لا نجدة للفقير. لقد أرسل إلينا مجلس التعاون الخليجي وسطاء فتاهوا في بحار الحكمة اليمانية: لطالما رفضونا كأعضاء في ناديهم المذهّب، فكيف نقبلهم أهل حل وربط. فليعالجوا أمورهم وليوحّدوا مجلسهم أولاً، وليعترفوا بعروبتهم قبل أن يأتوا إلينا موفدين باسم غيرهم…
يختم «كبيرهم» بالقول: ليحذروا انتقامنا غداً متى انهارت دولتنا ورجعنا إلى وهاد فقرنا. لن ندعهم يقترعون على موتنا!
لم يكن بيننا من الليبيين إلا بعض من أعطوا أنفسهم صفة المتحدثين باسم الثورة.. وكانوا أعجز من أن يدافعوا عن حرب الإبادة التي يشترك في شنها على بلادهم بأهلها وعمرانها الطاغية وأبناؤه من جهة، والحلف الأطلسي ومن معه من سلاطين العرب من جهة أخرى.
أما عند باب سوريا فيغرق الجميع في طوفان من الأسئلة: لماذا تأخر النظام في التنبّه إلى خطورة المشاكل التي كان عليه أن يعالجها؟! لماذا هذا الإفراط في استخدام القوة في حين أن الوضع في الأيام الأولى لم يكن يستدعي كل هذا الاستنفار الدموي؟ لماذا لم يبادر «الرئيس» الذي كان يحظى بشعبية موصوفة إلى تحقيق الإصلاح الذي طالما وعد به؟ لماذا ترك الأزمة تتفاقم ثم تتفجر متخذة سياقاً ينذر بحرب أهلية ستكون طائفية مهما تمّ تمويهها بالشعار السياسي؟! لماذا لم يستدع القيادات الفكرية والسياسية ممن يعرفهم وسبق له أن التقاهم مرات، إلى حوار يخلص إلى اتخاذ القرار بالخطوات الإصلاحية المطلوبة؟ لماذا اللجوء إلى الجيش بعد الأمن في علاج أمور لا تحلها القوة العسكرية بل وحده الإصلاح السياسي والاقتصادي هو المؤهل لحلها؟
كان الزملاء الخليجيون مستمعين، غالباً، فإن تحدثوا طرحوا مزيداً من الأسئلة، وإن هم لم يحيروا جواباً حول البدعة التي خرج بها مجلس التعاون الخليجي في اجتماعه الأخير ومؤداها دعوة النظامين الملكيين المتبقيين خارج إطاره بالانضمام إلى هذا الحلف المذهّب؟! وإذا كانت العلاقات «التاريخية» مع العرش الأردني، وهي أمنية أساساً ومدفوعة الثمن، قديمة ومتأصلة، فما السر في دعوة المغرب ـ بعرشه ذي الألف عام ـ إلى الانضمام إلى ناد للأثرياء أغلبية دوله لما تكمل عامها الستين، ومعظمها ليس حراً في قراره، فالنفط له حماته الذين لا يمكن أن يقفوا محايدين تجاه القرارات السياسية المتصلة بالأرض التي ينبع منها… ثم إن الأقربين كانوا أولى بالمعروف فلماذا تجاهلهم والطيران إلى أقصى الأرض العربية طلباً لوحدة مستحيلة، بلا مقدمات مقنعة أو مبررات مقبولة؟
الحديث عن البحرين يتخذ طابعاً مأسوياً. يقول كبير منها:
ـ لقد اغتيلت أنبل حركة شعبية عربية بوحشية موصوفة. لم يكن في الأمر ما يستدعي أن يشن «درع الجزيرة» حرباً دموية لن تنهي الأزمة. ولعل مجلس التعاون قد افترض أنه يؤكد حضوره فلم يفعل إلا تأكيد دوره القمعي.
هموم ما بعد انتصار الثورة الشــعبية التي لا حزب لها ولا برنامج غير مطالب الجماهير التي تستعصي على الحصر، أخطر بكــثير وأثقل بما لا يقاس من أن يستطيع إنجازها مجلس عسكري يتولى السلطة موقتاً، وبالوكالة عن الأصيل.
أما ان الأنظمة التي كانت تقوم على القمع وبه يجب أن تسقط، فهذا ما لا جدال فيه، وقد تولت الانتفاضات الشعبية هذه المهمة الجليلة.
وأما مهام اليوم التالي لانتصار الانتفاضة فهي المطروحة اليوم، ومن الواضح أن الأجوبة غير جاهزة، وأنها تحتاج الى وقت كي تصير سياسة وكي تتخذ صيغة البرنامج القابل للتنفيذ، بحماية الشعب ووعيه بمخاطر الخروج من الماضي القاتل إلى آفاق المستقبل المنشود.
والرحلة طويلة بعد، وآلام التقدم على الطريق إلى الغد الأفضل ثقيلة لا يستطيع تحملها إلا الثوار المؤهلون لمهمة إعادة صياغة التاريخ.

Exit mobile version