طلال سلمان

بطريرك نظام رئاسة

هي بضع كلمات قالها البطريرك الماروني الكاردينال صفير، في سياق حوار مع السفير يوم الجمعة الماضي، كانت كافية لأن تكشف مرة أخرى مدى هشاشة الطبقة السياسية في لبنان، والنقص الفاضح في إيمانها بالمؤسسات ، واستعدادها للتضحية بكل مقدس إذا كان ذلك يخدم أغراضها، ولو على حساب الدولة ودستورها و… الوطن!
كل ما قاله البطريرك صفير إنه لا يمانع في تعديل الدستور إذا كان ذلك يصب في خانة إنقاذ لبنان ، أي على قاعدة الضرورات تبيح المحظورات .
لكن هذه الجملة البسيطة، خلخلت التقديرات وأربكت الحسابات ودفعت بعض الأقطاب إلى مغادرة وقار الزعامة والتصدي لتوضيح مقاصد البطريرك بما يسيء إلى مقامه، فضلاً عن الإساءة إلى السفير التي لم تقصد غبطته لاستدراجه أو لتأويل كلامه، أو لاستمالته لتأييد مرشح رئاسي معيّن وهو الذي لا يميل ولا يستمال!
بالمقابل فإن هذه الواقعة ذاتها، بردود الفعل الواسعة والمتناقضة حولها، كانت كافية لتظهير صلابة هذا النظام السياسي القائم، بمعزل عن هشاشة الطبقة السياسية وارتباكها وصراعاتها التي لا تنتهي:
تتصدّع الدولة، وتتباعد الجهات والمناطق (بسكانها، أي بطوائفها ومذاهبها) فلا يهتز النظام ولا يقلق عليه حماته ..
يُفقد الصراع السياسي الحكومة نصابها الدستوري والميثاقي فتستمر بتراء، تقضي وتمضي ، توفد المبعوثين وتستقبل الموفدين وفيهم من هو خطير وفيهم من هو خطر، تعيّن الوكلاء أصيلين بقوة انتمائهم الطائفي أو المذهبي، تخاطب مجلس الأمن الدولي ويخاطبها برفع كلفة واضح إلى حد الاستفزاز…
يبدّل أركان في الطبقة السياسية مواقفهم فينتقلون من اليمين إلى يمين اليمين، وينتقلون بولائهم من خارج إلى خارج أبعد ، فلا ينكرهم النظام ولا يحاسبهم، بل كلما سجل عليهم المزيد من الخطايا باتوا أقرب إلى قلبه والتعبير عن طبيعته من أولئك العقائديين المصابين بداء الجمود أو الثبات على المبدأ ومجافاة العصر…
في أي حال، فليست السفير طرفاً في السجال الذي أطلقه الموقف الجديد للبطريرك الماروني والواضح ارتباطه بالضرورة، مع أن بعض الأقطاب و المفسّرين وقارئي الكف والنوايا حاولوا تبرئة غبطته من موقفه بنسبته إلى خبث الناقل، في حين حاول آخرون تجهيل الفاعل حتى يسهل التخفيف من أثره واعتباره مجرد دردشة على شرفة المقر الصيفي للبطريرك في الديمان، وهو المقر الذي يطل على أجمل بقعة في لبنان، سواء ارتفعت بنظرك إلى أعلى قمة أو هويت معه إلى وادي قنوبين حيث يولد الضباب ليغلف تلك المنطقة بجلال أسطورة من خشب الأرز معطرة بأنفاس جبران خليل جبران أو بريشة صليبا الدويهي.
مع ذلك فلا بد من الإشارة إلى بعض الوقائع التي ترسم الإطار السياسي العام لمعركة الرئاسة… وهي هي التي قد تجعلها متعذرة أو مستبعدة، أقله حتى إشعار آخر:
لقد تسابق بعض المرشحين لمنصب الرئاسة، وبينهم مرشحو أنفسهم، ومن ترشحهم جهات نافذة، أجنبية أساساً حتى لو موّهت نفسها بغطاء عربي، إلى إعادة التموضع استعداداً للطارئ الجديد وتداعياته المحتملة…
انتظمت قوافل المرشحين وسماسرة المعارك الرئاسية و القادة التاريخيين الذين كانوا يفترضون أن البطريرك الماروني معهم ، أو أنه ليس ضدهم، إن لم يكن بالقول الصريح فعبر الإشارات الدالة أو عبر الإيماءات التي لا يخطئها الأذكياء…
انهار مرشحون، وعبّر آخرون عن قلقهم أمام سفراء القرار.
وازدحم الأفق بأسئلة مصيرية: هل يئس البطريرك الماروني من النظام، أم أنه يحاول استنقاذه، ولو بآخر الدواء ؟! هل طوى آماله بأن تتم الانتخابات الرئاسية في موعدها الطبيعي، فلجأ إلى إسقاط الحرم عن الاستثناء؟! هل غادر موقفه المبدئي لأنه بات في قلب الاستحالة؟! أم أنها خلاصة استنتاجاته مما سمع من سفراء القرار؟! وهل كان مرشحو أنفسهم هم ضحية سذاجتهم أو تعجلهم أو قراءتهم للمواقف بما يلائم هواهم وليس بما يفرضه الوضع الخطير في البلاد؟!
في أي حال فإن كلام البطريرك الماروني لم يكن أكثر من ضوء كاشف إضافي على خطورة الأزمة التي تتهدد الكيان وليس النظام فحسب.
لقد كان المرشحون عموماً يفترضون أن دائرة الترشيحات مغلقة، ففتحها البطريرك الذي مجد لبنان أعطي له …
وكانوا يفترضون، بل وقد سمعوا ما يؤكد افتراضهم، أن النص الدستوري غير قابل للتعديل أو التأويل (برغم أن بعضهم سبق له أن وافق على التعديل مرة، وبعضهم مرتين!)… فماذا عدا مما بدا حتى تبدل موقف هذا الثابت على الموقف المبدئي، بحكم الموقع والمسؤولية؟!
إن كلام البطريرك يفتح الباب لمرشحين إضافيين كانوا خارج قائمة من يفترضون أنهم رموز المرحلة الجديدة … وهذه الإضافة الجديدة من خارج النص تتسبب في فوضى عارمة، وتفرض على الجميع إعادة حساباتهم والاستيثاق من مصادر دعمهم في الداخل قليلاً، وفي الخارج كثيراً…
وهم قد ذهبوا في تفسيراتهم وفي تقديراتهم وفي استنتاجاتهم بعيداً حتى اضطر غبطته إلى رفع صوته، أمس، محذراً من جديد: إن استمرار المهاترات البغيضة والجدل العقيم وما يرافق ذلك من مماحكات يزرع اليأس في قلوب المواطنين ويدفعهم إلى الهجرة بحثاً عن وطن بديل .
… ثم أن السفير الأميركي غائب، وكذلك السفير السعودي، والسفير الفرنسي قد نقل إلى منصب آخر، مما يعني أن ليل القلق سيطول…
أما المواطنون الذين يختنقون في ظل الاضطراب السياسي، والاشتباك بالسلاح مع عصابة تنتمي تنظيمياً أو بالطموح إلى القاعدة ، والأزمة الاقتصادية الحادة، والسرقات المشرعنة في العديد من المرافق، والكهرباء التي تأتي ولا تأتي…
أما اللبنانيون فليصبروا حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود ويعود إلينا أصحاب المبادرات، وبعضهم الآن في شغل عراقي عنا، فيقرّروا… إن الله مع الصابرين!

Exit mobile version