طلال سلمان

بطريرك لا عماد وطنية لا عنصرية

لا يشبه البطريرك الماروني الكاردينال صفير العماد ميشال عون في شيء. ولا يظن عاقل أنه يريد أو يقبل من الآخرين أن يعاملوه وكأنه وريث ذلك العسكري الذي أقحمه الخروج على النظام المسرح السياسي بذرائع طائفية، ثم حاول أن يستمر فوق هذا المسرح بقوة المدفع وبالحروب التي بدأت بشعار »التحرير« وانتهت في قلب »الطائفة« بشعار »إلغاء« غيره، فكانت النتيجة أن أُزيح بالحرب على »التمرد« لفتح الباب للسلم الأهلي.
ولا يشبه الصرح البطريركي في بكركي القصر الجمهوري في شيء، ويخطئ من يقصده وكأنه مركز القرار السياسي، فيحرجه (وإن لم يخرجه) إذ يحاول توظيفه في ما لا يستطيعه ولا هو مهيأ له.
مع ذلك تستمر المحاولات لخلط السياسة بالطائفية، في بكركي كما في مقار لمرجعيات روحية أخرى، فتكون النتيجة مزيدا من الضياع والارتباك، ويتحول الاختلاف في الرأي حول شؤون عامة يتصل القرار فيها بقوى عظمى ودول كبرى وصراعات تاريخية تكاد تبدل الثوابت في منطقتنا إلى انقسام على قاعدة طائفية تمهد الطريق للفتنة وتبعثر اللبنانيين أيدي سبأ فيزيد عجزهم عن مواجهة مشكلاتهم الفعلية والثقيلة والتي تحتاج إلى ما يزيد عن جهدهم مجتمعين.
تلك لعبة سياسية غير نظيفة اعتاد عليها اللبنانيون، برغم أن كلفتها باهظة: فليس أسهل من إثارة المسائل الخلافية في السياسة بشعارات طائفية المضمون، وإن تبدت للوهلة الأولى سياسية حتى العظم!
لا يحتاج الأمر إلى مراجع روحية عليا بمستوى بطاركة أو كرادلة أو مفتين أو شيوخ عقل.. فمع الغرائز لا يهم مستوى من يحركها، بل المهم خلق المناخ القابل لتوسيع دائرة الحريق!
على هذا استقبل اللبنانيون بارتياح الدعوة الصادرة عن البطريرك الماروني إلى الطلبة خصوصا والشباب عموما بالعودة لمتابعة دراستهم والانكباب على شؤون مستقبلهم..
إن مثل هذه الدعوة العاقلة قد تساعد على أن يخرج أبناؤنا من الطريق الضيق والمسدود الذي أنزلتهم إليه الشعارات ذات العنوان الوطني والمضمون الشوفيني بينما الاستهداف هو الإثارة الطائفية بل المذهبية حتى ليكاد يكون فاقعا في عنصريته.
لا أحد يناقش حق الشباب في التعبير عن آرائهم، السياسية منها والاجتماعية والثقافية، وفي رفع مطالبهم بغض النظر عن مدى صحتها أو قابليتها للتنفيذ.
ولا أحد يناقش حقهم في النزول إلى الشارع كوسيلة من وسائل الضغط لإسماع صوتهم، أي للمشاركة في »القرار«، بالتأييد أو بالاعتراض.
لكن من حق الجميع مناقشة الهدف من النزول إلى الشارع بهذا التوقيت وبهذا الشعار، وفي ظل مثل هذا المناخ الطائفي المسموم، والذي نتمنى ألا يصيب بلوثته معقد الأمل من أجيالنا الجديدة.
فاللقاء الرمزي عند المتحف يظل، على حيويته وعلى براءة المشاركين فيه ونظافة القصد، وبرغم شعاراته السياسية الفاقعة، خارج السياسة… ويظل كذلك قابلاً للتوظيف والاستثمار في ما لم يقصد إليه ولا يريده هؤلاء الفتية الذين تأخذهم الحماسة إلى التطرف الذي يعطل العقل والمنطق، وهو ينسج الشعار المستحيل.
ومع التمني بأن تتأكد حتمية التلاقي المفتوح، وفي الأمكنة التي كانت »حدودا« للطوائفية السياسية، وبالتالي للاستثمارات المجزية في »حروب الأخوة الأعداء«، مثل المتحف وغيره من »المعابر« فإن ذلك التحرك يكاد يكون نموذجا للغلط الفادح في التوقيت والاستهداف والشعار المرفوع، بقدر ما يمثل حالة فاضحة للاستغلال الطائفي والمذهبي للمطلب الوطني بما يشوهه ويلحق به أشد الأذى.
نلتقي عند حدود »المتصرفية« أو عند حدود »القائمقاميتين«؟!
ونلتقي على الشعار العنصري مع توكيد عليه باللغة الفرنسية!
ما علينا من بعض الظواهر غير المطمئنة والتي قد لا تكون مقصودة.
لكن هؤلاء الذين تجمعوا حول المطالبة بإنهاء الوجود السوري في لبنان، يعرفون أو يفترض أنهم يعرفون أن مثل هذا الشعار يتسبب في انقسام داخلي أكثر مما يزعج السوريين أو يقلقهم على »وجودهم« في لبنان.
ويفترض بهؤلاء الشباب، وهم نواة لوحدتنا الوطنية في الحاضر والمستقبل، وهم أيضا الأمل في تخطي حاجز الانقسام (وليس حاجز المتحف وحده)، أن يفهموا مجتمعهم وأن يعرفوا مكوناته، خصوصا وأنهم اكتووا منذ الولادة بنيران الحرب الأهلية فرضعوا مآسيها مع الحليب ووعوا وهم يكبرون في ظل ملاجئ الرعب وطرقات القنص والسيارات المفخخة خطرها الماحق على فكرة الوطن، وكبروا وقد تشبعوا بالإرادة والوعي والإصرار على تجنب العودة إليها لأي سبب، حيث لا مجال لرابح أو منتصر، بل الكل في خانة الخاسرين…
وبغض النظر عن الخطأ في الشعار المرفوع، فلو أن الوجود العسكري السوري اختفى غدا، فإن الأزمات التي يعيشها شبابنا لن تنقص ولن تحل: بدءا بفرص العمل، وإغلاق باب هجرة أدمغتنا الجديدة، معقد الأمل، وصولا الى حسم الأزمة الاقتصادية ومن ثم إعادة صياغة دور لبنان في منطقته وبين أهله، بحيث لا يظل ضائعا ومضيّعاً بين ماضي الازدهار الوافد الذي لن يعود، وبين عجزه عن تلبية احتياجات حقيقية يفترض أنه مؤهل لتلبيتها نظريا، لكن خطتها لا تحظى بالعناية المطلوبة..
فنحن نبيع خبراتنا بالمفرق، إلى محيطنا أو إلى الخارج، بينما لو استثمرناها بالجملة ومحليا لأمكننا أن نبني مركزا تجاريا صناعيا متقدما إضافة إلى الخصائص السياحية الممتازة، لا سيما إذا ما أُخضعت لقانون السوق ولم تعد امتيازاً للأثرياء، بل ولفاحشي الثراء.
كان يمكن أن نحتفل بعيد الاستقلال الأول بعد التحرير وإجلاء المحتل الإسرائيلي، الذي حرص على تذكيرنا »بأفضاله« عبر خرق جدار الصوت طوال يوم أمس، بغير هذا المظهر الإنقسامي الذي أضاع منا فرصة الفرح اليتيم وفرض علينا جواً من الكآبة والهمّ والتيه عن طريق التلاقي الثابت والأكيد.
كان يمكن أن نلتقي على ما يجمع بالضرورة، أي بالمصلحة والطموح، بالأمل والرغبة،
وما زال ممكنا أن نلتقي، وواجبا أن نلتقي.
لكن العنصرية تفرّق ولا تجمع، والشعار المتطرف يبدّد ويقسم ويهدد بتصديع الصفوف، أما الشعار الطائفي فقاتل حتما.
وأما التحرير فله شروط أخرى، وقد عرفنا نموذجين منه:
النموذج الغلط، قدمه العماد عون حين كان يحتل مركز القرار في القصر الجمهوري عنوة وقهرا، ويحمي نفسه بالسور الطائفي، وقد حوّل الشعار المتوهج الى مدخل لتجديد الحرب الأهلية والفتنة والاقتتال داخل الطائفة الواحدة،
والنموذج الصحيح وهو ما قدمه لبنان المقاوم كمثال نموذجي للنجاح في إجلاء محتل هائل القوة، بانتصاره على الاحتلال الإسرائيلي ولو بالغالي من التضحيات التي قدمها الفتية البواسل من المجاهدين كما مجموع اللبنانيين على امتداد مساحة هذا الوطن الصغير والجميل والقوي طالما ظل أهله خارج الدوامة الطائفية وشعاراتها الخاطئة إلى حد القتل.

Exit mobile version