طلال سلمان

بطريرك عائد قائدا معترضين

حتى من قبل الرحلة الأميركية كان البطريرك الماروني الكاردينال نصر الله صفير، بقوة الأمر الواقع، المرجعية السياسية الأولى للمسيحيين في لبنان.
أما بعد الرحلة، ومع الترتيبات المحمومة لإعداد استقبال شعبي حاشد للبطريرك العائد إلى منزله، فلا بد من التنويه بأن معظم القوى السياسية (المسيحية) تحاول الإفادة من هذه المناسبة لإثبات حضورها واسترجاع ما كان لها من دور عبر التسليم له باعتباره القيادة أو »الزعامة« المسيحية الشعبية والسياسية.
ومع أن البطريرك صفير يبدو شديد الحرص على النأي بنفسه عن دور »الزعيم« أو »القائد السياسي« مكتفياً بدوره المرجعي كمرشد روحي، وكملاذ لمن يرون أنفسهم مظلومين ومضطهدين ولا يجدون مَن يستمع إلى شكاويهم، فإن الأحزاب والقوى السياسية »المسيحية« التي لجأت إلى بكركي، في الفترة الأخيرة، محاولة أن تتخذ منها المنبر ودار الحشد ذات الحصانة، وجدت في الاستقبال فرصة لإعلان حضورها (ولو عبره) وقوة تمثيلها (ولو من خلاله).
هذا في الشكل، أما في »السياسة« فالأمر مختلف، إذ قد يبدو الاستقبال الحاشد وكأنه إعلان اعتراض أو رفض لطروحات الحكم ومناهجه، وتلويح »بخروج المسيحيين على الدولة«، ودائما تحت لافتة المطالبة بالخروج السوري من لبنان باعتباره عنوان الاستقلال والسيادة واستعادة الشرعية وعودة الروح إلى »النظام« الذي أسقطه »أهله« فأسقطهم في أواخر الثمانينيات ليقوم على أنقاضه »نظام الطائف«.
بهذا المعنى تصبح الدلالة المقصودة لمهرجان الترحيب بعودة البطريرك الماروني أبعد من إظهار العاطفة تجاه شخصه الذي يحظى بالتقدير أو موقعه الذي يحترمه الجميع، هي في اغتنام المناسبة لإعلان الاعتراض والرفض بنبرة قد لا تصل إلى إعلان الحرب وإن هي لوّحت بها لاختصار الطريق إلى.. السلطة!
»نعم للبطريرك« لها وجه آخر هو الأهم بل هو الأساس، وهو وجه يوحي بحرب من المؤكد أن البطريرك صفير لا يسعى إليها ولا يريدها.
فليس البطريرك صفير داعية حرب أهلية، ولا هو خاصة قائد لحرب تحرير شعبية، وبالقطع فإنه ضد العنف بالمطلق، ولعله قد تطرف في هذا الموقف حتى مع حركة »المقاومة« ضد الاحتلال الإسرائيلي للأرض اللبنانية، فلم يشر إليها بالاسم إلا نادراً، وبعدما جلا المحتل وشهد العالم كله بدورها الحاسم في إجباره على الخروج حتى وهو يدعي زوراً أنه إنما ينفذ القرار 425.
* * *
من هنا، فلن ينظر أحد »على الضفة الأخرى« إلى الاستقبال الشعبي الحاشد للبطريرك صفير، العائد من رحلة أميركية طويلة، على أنه »تحد« أو »استفزاز« أو استعراض قوة ضدهم..
سيظل الأمر في نطاق »إثبات الوجود« أو »إعلان الموقف« أو »انتهاز الفرصة« لركوب الموجة… وسبحان من يحيي العظام وهي رميم.
ولن يخطر في بال أحد أن يفترض أن للبطريرك صفير دوراً في التظاهرة أو في أغراضها.
وقد يكون لكثير من الناس، على الضفتين، ملاحظات »سياسية« على الجزء السياسي من كلام البطريرك صفير، سواء هنا أم خلال رحلته الأميركية الكندية الطويلة التي تعددت فيها مناسبات الكلام ولكنها ظلت في المجمل ضمن جو اللون الواحد.
على أن هذه الملاحظات لا تنتقص لا من احترام المقام ولا من الدور الوطني لهذه المرجعية العريقة التي لعبت دوراً حاسماً في اللحظات الحرجة من تاريخ هذا الوطن الصغير.
ولقد سجل اللبنانيون بالتقدير الكثير ممّا صدر عن البطريرك الماروني متصلاً بوحدتهم الوطنية، وبالإلحاح على الديموقراطية، وبالتوكيد على التعايش المسيحي الإسلامي، وبالتحذير من استمرار النزف المسيحي من الشرق عموماً ومن لبنان على وجه الخصوص، والتنويه بأن هذا الأمر لا يقلق المسيحيين وحدهم بل المسلمين كلهم في العالم.
كذلك سجل اللبنانيون بالتقدير تأكيد البطريرك الماروني على رفض التطرف الديني في المنطقة، والإلحاح على العيش المشترك، وعلى أن بكركي مع الدولة بطبيعة الحال، و»هي لا تدعم رئيس الجمهورية لأنه ماروني ولكن لأنه رئيس الدولة«، وتنبيهه إلى »أن بعضاً من أصحاب الأغراض يخيفوننا بعضنا من بعض«، وإشارته إلى أن علاقات بكركي مع »حزب الله« جيدة، وهم »يزورونني وألتقيهم« بين حين وآخر، وإلى أن »اللغة العربية هي لغتنا مثلما هي لغة سوانا، وهي منفتحة علينا وعلى العالم« الخ…
حتى الموقف من الوجود السوري، على حدته والتصعيد المستمر فيه، فإن البطريرك صفير كان يحرص دائما على التأكيد أنه لا يقول به »من موقع عدائي«، وذلك في أي حال قضية أخرى.
* * *
أما وقد انتهت الرحلة الأميركية الطويلة، بكل ما رافقها وأحاط بها من ترحيب وتهليل وحرارة شعبية، ومن برودة وإشكالات رسمية أميركية، ومن تفسيرات وتقديرات سياسية، فلا بد من تسجيل ملاحظات أولية على أن يكون التقييم النهائي للبطريرك نفسه، وبعد أن يستقر بالسلامة في مقره، بعد أن تهدأ العواطف وينفض جمع الذي تلاقوا من حوله، بالغرض، ولكي يعودوا إلى »الصورة« من جديد.
الملاحظة الأولى لعل البطريرك صفير قد عاد أكثر اقتناعاً بأننا المعنيون بحل مشكلاتنا، وأن ما لا نستطيع التوافق عليه داخلياً، ومباشرة، لا نستطيع إقناع الآخرين به، ولا هم سيكونون معنيين بحله.
الملاحظة الثانية لعل البطريرك صفير قد عاد أكثر يقيناً بأن »الخارج« قليل الاهتمام بمشكلاتنا، وأن مصالحه هي التي تحكم مواقفه وليست عواطفه، هذا إذا افترضنا أن للعواطف علاقة بالسياسة.
الملاحظة الثالثة لعل النقص في الاهتمام الرسمي (أميركياً) بالبطريرك صفير يعود إلى أنهم كانوا يعرفون أنه لا يأتيهم للتواطؤ معهم باسم المسيحيين على الشركاء في الوطن من المسلمين.
فالبطريرك الماروني يعرف بالتأكيد أن كثيرا من المشكلات بين اللبنانيين إنما نشأت حين رغب بعضهم في التواطؤ على بعضهم الآخر، وذهبوا إلى هذه الدولة فعقدوا اتفاقاً منفرداً معها، ثم ذهبوا إلى دولة أخرى ليعقدوا »اتفاقا منفردا« جديدا مضادا، وانتهى الأمر بأن دفعوا فاتورة التواطؤات جميعا (بل إن البلاد هي التي دفعت.. بالدم، الثمن أكثر من مرة)..
الملاحظة الرابعة لعل البطريرك الماروني يعود أكثر اقتناعاً بأن العلاقات مع سوريا »موضوع داخلي« بالأساس، وأن الاتفاق عليه شأن وطني، بالأساس، فإذا ما اختلف اللبنانيون من حوله فلا حل له من الخارج، وأن من يسعى إلى »استيراد« حل خارجي فهو إنما يسعى إلى تجديد الحرب الأهلية.
* * *
على امتداد السنوات الأخيرة، ولأسباب متعددة فيها السياسي وفيها الإنساني، اكتسبت بكركي موقع المرجعية المسيحية الأساسية ثم تقدمت أكثر فشغلت الفراغ الواسع بالاضطرار أكثر مما بالرغبة.
ومع الأيام، ومع افتقاد المحاور المؤهل لتقديم الحلول، أخذت أقوال بكركي تقترب من صورة الطروحات السياسية المتكاملة، بل لعلها في الفترة الأخيرة قد وصلت لأن تكون مسودة »البيان التأسيسي« لحركة سياسية جديدة تحدد نظرة المسيحيين إلى النظام القائم وتعترض على موقعهم فيه.
ولعل هذا المعنى سيتبدى جليا غداً خلال الاستقبال الحاشد والمنظم بدقة، والذي يُراد منه إعلان هذا »البيان التأسيسي«، مباشرة، وفي الشارع.
ومع أن الكل يعرف أن البطريرك صفير ضد التطرف في المواقف، وهو لم يصل قطعا إلى حد التشجيع على »الخروج من الدولة« أو الخروج عليها، فإن أطرافا سياسية كثيرة ستحاول التسلح بتظاهرة الاستقبال للابتزاز السياسي، أي التلويح بالخروج من أجل دعوة إلى الدخول إلى موقع مريح.
بعد التظاهرة سيستقر البطريرك صفير في مقره في بكركي، وقد اكتسب مزيدا من الرصيد.
لكن السؤال عن أولئك الذين سيقتحمون صورة الاستقبال، وعن »رحلتهم« بعد التظاهرة وإلى أين ستقودهم، وكيف سيعملون على استثمار »الإحباط« في مغامراتهم الجديدة لمحاولة اقتحام »النظام« بسيف الطائفة التي طالما وُجهت إليها الاتهامات باحتكار السلطة، والتي تشكو بعض قياداتها، الآن، من الغبن ومن استبعادها عن مركز القرار.

Exit mobile version