طلال سلمان

بطريرك ثاني في زحلة متى تصل دولة الى بقاع

الحمد لله… فلقد تخلى غبطة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، خلال زيارته زحلة، يوم أمس، عن اللغة السياسية بنبرة انقسامية التي طالما استخدمها في تعليقاته اليومية على مجريات الأمور، غثها والسمين، في لبنان.
والحمد لله، ثانية، ان غبطته قد هجر، ولو مؤقتاً، ذلك الخطاب المستفز والمستهجن صدوره عن مرجع ديني مهمته نشر الوئام والتضامن الوطني، كالذي استخدمه البطريرك صفير خلال لقاءاته مع كبار المسؤولين الفرنسيين، الأسبوع الماضي، وقد أحاطوه بحفاوة استثنائية افترضوا أنها قد تعوض عن تراجع دورهم الدولي عموماً، والعربي خصوصاً، واللبناني من ضمنه، نتيجة التحولات الهائلة التي غيرت العالم وجعلت للقرار الكوني مركزاً أوحد: واشنطن!
لعل مناخ البقاع الذي حفظ أبناؤه وحدتهم الوطنية فيه بروح الأخوة، طوال عهد الانقسام الى حد الاقتتال، قد أسقط من خطاب البطريرك صفير الكثير من التوصيفات والتعابير والتشبيهات التي طالما نزلت به من علياء المرجع الجامع والراعي الصالح والموجه الى خير اللبنانيين جميعاً وعلى اختلاف انتماءاتهم الدينية، الى موقع الطرف في مخاصمات ومناكفات يعرف غبطته انها تنحدر بالسياسة الى وهدة الفتنة متخذة من الثوب الكهنوتي الغطاء لأغراض مؤذية للرعايا في دينهم وفي دنياهم معاً.
وبرغم لافتات الترحيب بالزيارة التاريخية للبطريرك صفير الى البقاع عموماً، والى «عاصمة الكثلكة» كما يطلق على زحلة، تحديداً، فإن الأهالي في غربي البقاع ووسطه وشماله وشرقه لم يخفوا عتبهم من هذه الزيارة هي الثانية لبطريرك ماروني الى «ديارهم» البعيدة والمنسية منذ زيارة البطريرك عريضة في العام 1938.
كذلك فإن البقاعيين لم ينظروا بارتياح الى «المناخ الحزبي» الذي فرضته بعض القوى السياسية ذات التاريخ الحربي على عاصمة البقاع، في محاولة للظهور بمظهر «المضيف» في «جارة الوادي» التي تميزت بأنها مدينة الشعر والشعراء والموسيقى والغناء، وأعظمهم أمير الشعراء أحمد شوقي الذي أدخل زحلة وجدان العرب مشرقاً ومغرباً بصوت المطرب الكبير محمد عبد الوهاب في أواخر الشعرينيات من القرن الماضي، والتي أعادت مطربتنا الممتازة فيروز أداءها بصوتها المنشي بعد نصف قرن او يزيد.
لقد كادت «المظاهر» التي احاطت بالموكب، من اعلام حزبية وشعارات ومواكب سيارة تطوف في ارجاء المدينة، تصور وكأن البطريرك قد جاء يحل ضيفاً على تنظيم طارئ عليها، جاءها من خارج تاريخ علاقتها بمحيطها، وحاول ان يفرض عليها لغة لا تتسق مع طبيعتها وحرصها على البقاء عاصمة للبقاع مفتوحة القلب، بفروع الجامعات فيها والمدارس والمستشفيات والفنادق ومطاعم الوادي ومقاهيه والمنتديات الثقافية، لأبناء الجهات جميعاً، بطوائفهم ومذاهبهم المتعددة، كما لضيوف لبنان، صيفاً وشتاءً، ولقاصدي مهرجانات بعلبك على وجه الخصوص.
وكان بديهياً أن يستذكر الزحليون القيادات السياسية التي انجبتها مدينتهم والذين اشتهروا عبر المراحل المختلفة التي مر بها لبنان، بالاعتدال و«الوسطية» التي اوصلت احد رموزها، الراحل الياس الهراوي، الى سدة الرئاسة، وهو القائل: «بالوحدة نحمي الحاضر والمستقبل».
[ [ [
أما وقد تمت الزيارة التي استقبلها من هم على جانبي طريقها بما تستحق من تقدير فإن البقاعيين عموما يفترضون ان لهم حقوقاً على البطريرك صفير الذي لم يتيسر له ان يرى إلا ما أعد سلفاً فحاصره وحصره ضمن مدى رؤية محدود، وضمن أفق سياسي «حزبي» لا يعبر عن روح المدينة، بل روح البقاع عموماً، وأول تلك الحقوق وأخطرها ان يتجنب الانحياز والاكتفاء بالاستماع الى وجهة نظر واحدة، تغلق عليه الأفق، وتباعد بينه وبين الحقائق الأصلية في هذا الوطن الصغير، كما تجعله طرفاً في ما لا يجوز فيه الانحياز، اذ انه لا يتناسب مع «الوحدوية» المفترضة في موقعه الجليل.
فهذا هو البقاع بأهله المتنوعي المشارب والتوجهات، شماله سوريا، وشرقه سوريا،
والجنوب فلسطين المحتلة. ولهذه الحقيقة الجغرافية منطقها السياسي ومفاعيلها العملية على الأرض. فمن يستعدي اللبنانيين على سوريا او يستعدي سوريا على اللبنانيين لا يقدم خدمة جلى لشعارات الحرية والسيادة والاستقلال، ولا للاستقرار والرفاه الاجتماعي والازدهار الاقتصادي.
ثم إن من لا يتذكر البقاع إلا عند الحديث عن المطلوبين والمخدرات وعصابات سرقة السيارات، ثم ينساه فيسقطه من الاهتمام عند الحديث عن «حكاية» الإنماء المتوازن، وعن إنعاش الزراعة لتثبيت الاهالي في الأرض التي كانت مصدراً للخير (او إهراءات روما عند الذين يفضلون ان يتذكروا الخارج وينسوا وطنهم)… مثل هؤلاء لا يجوز لهم الادّعاء انهم حريصون على البقاع وأهله، الذين تنبع الانهار من أرضهم ويشترون المياه للشرب وري المزروعات، والذين ينتجون الغلال قمحاً وعدساً وحمصاً وعنباً شهياً وسائر الفواكه، ثم تنتهي سنة التعب والعرق والديون بإفلاس لا يهم ان كان معلناً او غير معلن…
بركاتك يا سيد،
لعل هواء البقاع العليل، الذي حفظ لبنان برغم تناسي «دولته له ينعشك فتستذكر في خطبك المقبلة ان ابناء «الملحقات» قد صانوا وحدته وصانوا سلامه الوطني الذي، يرون الآن ان الميليشيات المجددة والتي حاصرتك في «دار السلام» تهدده مرة اخرى… محاولة ان تتلطى بعباءتك لتظهر نفسها وكأنها المضيف، في حين ان مضيفك الحقيقي ما زال ينتظر وصول «الدولة» إليه، وهي قد تستغرق في رحلتها اكثر من 72 سنة، وهي المدة التي فصلت بين زيارتين بطريركيتين!
«بارك يا سيد…»

Exit mobile version