طلال سلمان

بطريرك اعتدال زعيما تطرف

جاء البطريرك صفير إلى السدّة في بكركي بوصفه رمزù للاعتدال داخل المؤسسة الكهنوتية المارونية، وكمؤشر بل ربما كقرار بضرورة إنهاء عصر الجنون الطائفي الدموي في لبنان.
ولقد دفع البطريرك صفير ثمن اعتداله غاليù، وواجهته مصاعب قاسية مع الكهنوت نفسه قبل أن يقتحم عليه التطرّف الماروني مهجعه، ملحقù به أذىً معنويù جسيمù، وببكركي وحصانتها وشرعيتها التاريخية إساءة بالغة، لن تنسى قبل مرور زمن طويل.
اليوم، يرى البعض في بكركي حصنù للتطرّف المسيحي، ويتهمون البطريرك صفير نفسه بأنه زعيم تيار الاستنكاف والاعتكاف والمقاطعة والإحباط الذي يحرّض الموارنة على البقاء خارج »الجمهورية الثانية« أو الابتعاد عنها وتركها لمصيرها البائس المحتوم!
في هذه الصورة، طبعù، ظلم فادح للبطريرك نصر ا” بطرس صفير، وقفز عن الأسباب العديدة والمعقدة التي رافقت محاولة بناء هذه »الجمهورية« التي ولدت بسلسلة من العمليات القيصرية فرضتها ظروف معلومة، بحيث لم يقبلها الناس إلا كخيار اضطراري وبوصفها المخرج الوحيد المتاح لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان من أتون الحرب الأهلية المدمرة.
ولأن »الجمهورية« وُلدت شوهاء، فقد عزّ المدافع عنها والنصير، حتى بين المنتفعين منها، في حين تشكّلت »نقابة« أو »جبهة عريضة« تلاقى فيها أشتات من المتضرّرين الفعليين أو الذين عجزوا عن نيل ما وعَدوا أنفسهم به من »جبنتها«، إضافة إلى أيتام الحرب الأهلية والذين لا يحقّق لهم السلم الأهلي طموحاتهم السياسية أو الحماية الكافية لمصالحهم الشخصية وجلّها ملوث بدم الأبرياء.
ولأن الحرب كانت قد التهمت المؤسسات السياسية عمومù، إذ تطفأت الأحزاب فصارت ميليشيات، وسُحقت الطبقة الوسطى، وهاجرت النخب أو هُجِّرت، واحتلّت المتاريس الشوارع، وانتشرت ريح السموم الطائفية على الجامعات والمعاهد فصدّعت وحدتها وأفسدت مناخها ودفعت الشباب بأكثريتهم إلى الهرب من العمل الحزبي والنقابي والسياسة عمومù منصرفين إلى الرياضة والهوايات الغريبة والعبثية،
لهذا وذاك وأسباب أخرى كثيرة، خلت الساحة من القوى الفعلية المعبّرة عن المصالح وعن الهموم الحياتية، فلم يتبقّ في الحلبة إلا رجال الدين أو رموز التيارات والحركات الطائفية والمذهبية.
ولأن »الجمهورية« ولدت مدموغة بطائفية المناصب والمواقع، بذريعة السعي لمكافحة الطائفية بالإشباع الطائفي، فقد تشابكت المرجعيات: صار الزعيم أو الوجيه الآتي إلى الحكم باسم تمثيليته الطائفية الممثل الشرعي والوحيد لطائفته، وبالتالي فقد بات منافسù من موقع السلطة للمرجعية الدينية التي اتجهت تدريجù إلى موقع المعارضة، ولو بدافع الحرص على صفتها التمثيلية الاعتبارية.
صار لكل طائفة »رأسان«: ممثلها في السلطة ومرجعيتها الروحية،
في حالات محددة أمكن تجنّب المأزق، إذ طغت شخصية »الرئيس« على شخصية »المرجع«، إما لأسباب تاريخية، وإما لأسباب عملية وواقعية،
أما عند الطائفة المارونية التي تعاظم في أوساطها الشعور بأنها خسرت موقعها الممتاز، وبأن »الجمهورية الثانية« جاءت تجسيدù لانحسار نفوذها وتلاشي امتيازاتها، فقد تركّزت المعارضة على »شخص رئيس الجمهورية«، ومعه من بعد الوزراء والنواب الذين تحدوا القرار بمقاطعة الانتخابات، موفرة للبطريرك الماروني فرصة تقدم الصفوف ليكون رمز الاعتراض والمطالب بتعديلات جوهرية ترفع عن الطائفة الغبن والحرمان.
صار »البطريرك« الملاذ والمتراس والضمير، وصار أيضù البديل من الزعماء جميعù سواء من غيّبهم الموت أو الخطأ أو غابوا بمزاجهم وفي انتظار أن يتم تنظيف البلاد بحيث تليق بهم لو عادوا إليها من المنافي محرّرين، كما ديغول.
لم يكن ذلك ذنب البطريرك، ولعله لم يكن مطلبه أو مقصده، لكنه وجد نفسه فجأة في الموقع المتقدم، في المواجهة تمامù مع »الجمهورية« التي كان في لحظة البدء بين دعاتها وشريكù مفوضù من قبل تيار الاعتدال (بالرغبة أو بالاضطرار) في مباركة قراراتها الأولى.
لكن الدنيا تغيّرت جذريù خلال السنوات الخمس من عمر هذه »الجمهورية«،
وها هي »دولة« تلك الجمهورية ترى نفسها مضطرة للتوجه الى البطريرك من أجل التشاور معه حول مستقبل غير متفق عليه انطلاقù من واقع الاختلاف على الحاضر القائم.
لا »الدولة« قوية بما يكفي، ولا هي »موحدة« ولو بالحد الأدنى الضروري،
ثم إنها »أطراف« في موضوع الاستشارة ذاته.
أما البطريرك فيستشعر قوة إضافية معظمها مستمد من تهافت »الدولة« بل ربما »الدول« التي تشاوره، وخصوصù أنه يملك رؤيته المحدَّدة ويستند إلى شعبية يتراكم فيها كمّ متنافر من أصحاب العواطف أو المصالح أو الأغراض، بعضهم هرب إليه بخيبته، والبعض تلطّى خلف حصانته لإعادة الاعتبار إلى مشروع انتحاري مرفوض، أو تربّص في بكركي لعلّه يقنص رئاسة »الجمهورية الثالثة« باسم التطرف، وكردّ على الاعتدال المبالغ فيه في »الجمهورية الثانية« والذي يرى هؤلاء أنه قد بلغ حدّ التفريط.
في ضوء هذا كله يصير السؤال المشروع: هل يستوي الحوار بين »دول« الجمهورية الثانية، أو رؤوسها، أو الرؤساء الأُول، وبين صاحب الغبطتين، ورئيس المرجعيتين الدينية والسياسية، ولو بالاضطرار؟!
وليس كيديù أو عبثيù التساؤل عما إذا كانت تلك الأمسية قد شهدت مفاوضات صعبة بين »دولتين« متعارضتي الأهداف والمصالح والتوجهات…

Exit mobile version