طلال سلمان

بشار اسد »يخاطب« باراك اوباما استعادة لخطاب عروبة ومطامحها

المناسبة، في أصلها، عادية: افتتاح أعمال الدورة الثانية للبرلمان العربي الانتقالي الذي استولده عجز البرلمانات العربية العاطلة عن العمل، وإن أريد منه أن يكون تذكيراً »بالمشترك« من الأهداف العربية لتوحيد المصالح فضلاً عن الطموحات المشروعة…. لكن مصادفة التزامن مع »العرس العالمي« متعدد الأسباب والأغراض، بإعلان فوز باراك أوباما برئاسة الولايات المتحدة الأميركية، جعلها خيراً من ميعاد بالنسبة للرئيس السوري بشار الأسد، لكي يعلن ـ ضمناً ـ الموقف من هذا الحدث بكل دلالاته وتأثيراته المفترضة، عبر إعادة الاعتبار إلى جملة من الأهداف العربية الأساسية، وفي ضوء التجربة البائسة مع الإدارة الأميركية التي تحزم حقائبها الآن للرحيل عن البيت الأبيض، تطاردها لعنات الشعوب، وبشكل خاص في هذه المنطقة العربية التي دفعت من دمائها ثمناً فادحاً لأخطاء هذه الإدارة وخطاياها.ولقد أعطى بشار الأسد لنفسه الحق بأن يتحدث باسم العرب جميعاً، ليس من موقع »رئيس القمة العربية« فحسب، بل باعتباره »حارس المطالب العربية المشروعة«، انطلاقاً من سوريا التي انتهكت قوات الاحتلال الأميركي للعراق حدودها قبل أيام قليلة فارتكبت في أرض »البوكمال« مذبحة ذهب ضحيتها رجال ونساء وأطفال، بينما انتهكت قوات الاحتلال الإسرائيلي جوها قبل شهور قليلة ـ بتغطية أميركية ـ لتدمر ما اعتبرته هدفاً عسكرياً (نووياً!) في منطقة دير الزور…أعاد بشار الأسد كلمة »العروبة« إلى التداول، من موقعه الرسمي، فوصفها بأنها »تختصر كل الأسس التي تشكل في محصلتها الضمانة الأساسية لنا أفراداً ومجتمعات، ليكون لنا مكاننا اللائق بين الأمم، والذي نستحقه عن جدارة ونفرضه مع احترامنا على الآخرين، وليس ذلك المكان الذي يقدم كجائزة ترضية، مقابل تنازلات مخزية… وبذلك نكون قد تخلصنا من عقد النقص الكثيرة التي زرعت في أذهاننا وعقولنا خلال العقود المنصرمة، وسمحت للآخرين بقيادتنا بعيداً عن أنفسنا وحوّلت مؤسساتنا القومية إلى بنى شكلية غير فاعلة«..من زمان لم يسمع المواطن العربي موقفاً قاطعاً في وضوحه من إسرائيل وجرائم احتلالها في فلسطين، ومن الاحتلال الأميركي وجرائمه في العراق، وكذلك حول العروبة، وحول العلاقات بين العرب وجيرانهم ـ شركائهم في المصالح وبالتحديد إيران وتركيا مثل الذي سمعوه من الرئيس السوري يوم أمس.وفي لحظات بدا وكأن بشار الأسد يتحدث بلسان المواطن العربي،وفي لحظات أخرى بدا وكأنه يتوجه بنداء عاجل إلى المسؤولين العرب الآخرين لتحديد الخسائر »علينا أن نعمل باستمرار على حل خلافاتنا، خاصة أن التباين في المواقف الرسمية العربية لا يعكس تناقضاً في المصالح… فلنستند إلى التوافق على الحد الأدنى الممكن من التضامن بيننا وسط هجمة شرسة تستهدفنا جميعاً، هوية ومصالح ولكن من دون التسليم بالأمر الواقع، كما يسعى الآخرون إلى فرضه«.لقد وجدها الرئيس السوري مناسبة لكي يعيد طرح ما بات يعتبر وكأنه من الماضي الذي مر عليه الزمن… فذكّر بالمخاطر التي تهدد الأمن القومي العربي ليخلص إلى القول إن »الانكفاء ليس قدراً محتوماً على العرب، والانكسار ليس خيارهم الأخير، وأن المقاومة بمعناها الشامل هي التي تمنح الأمان في وجه العدوان وتضمن تحقيق السلام الذي هو للأقوياء فقط«.كذلك وجدها مناسبة للتذكير بأن التضامن العربي هو الوسيلة لاستعادة الوضع العربي الطبيعي الذي لا يكتمل من دون علاقات عربية منفتحة مع دول المنطقة وشعوبها وثقافتها، خاصة المجاورة لنا جغرافياً، والتي تداخل تاريخنا مع تاريخها وتمازجنا معها بشرياً وثقافياً لقرون طويلة.. (واضحة الإشارة هنا إلى تركيا وإيران).[ [ [لقد حاسب الأميركيون رئيسهم المنتهية ولايته ومعه إدارته، بعدما تسبب لبلاده بكوارث سيكون عليهم أن يتحملوا أثقالها من حقهم في الحياة لسنين طويلة.. ومع ذلك ظل كبار المسؤولين العرب يتسابقون إلى تلبية طلباته وطلبات إسرائيل على حساب حقوقهم في أوطانهم…ولقد ثبت خداع الإدارة الأميركية العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، وعبر ابتداعهم المبادرة الوهمية وخرائط الطريق التي ثبت أنها لا تقود إلا إلى قيام »دولة اليهود« على أرض فلسطين، واندثار حلم الفلسطينيين بدولة لهم فوق أرضهم… وما زال بعض القادة العرب »يصدقون« أو يدعون أنهم يصدقون وعود الإدارة الأميركية التي تسخر منهم علناً، وآخر اللقاءات في شرم الشيخ، أمس، وفي القدس المحتلة كانت تعبيراً علنياً عن امتهان الإدارة الأميركية والقيادة الإسرائيلية ليس للفلسطينيين وحدهم، بل للعرب جميعاً.من هنا يبدو موقف الرئيس السوري بشار الأسد من خارج السياق الرسمي، ولكنه سيجد آذاناً صاغية لدى الجمهور العربي الذي يكاد يختنق بشعوره بالمهانة، ويرى أن مشكلاته في حكامه والمسؤولين عنه والناطقين باسمه (في غيابه) قبل أن تكون مشكلته مع »الإسرائيلي« الذي ما زال »عدواً«، لأن تلك طبيعته، وتلك أيضاً »مصلحته« فضلاً عن واقعه: »شعار السلام يستخدم كجزء من مفردات اللعبة السياسية الداخلية في إسرائيل. السلام لم يكن الهاجس السياسي للإسرائيليين، بل هو الأمن بالمعنى الضيق، أمنهم هم الذي لا يتحقق إلا على حساب أمننا وحقوقنا نحن العرب..«.[ [ [من المصادفات أيضاً أن خطاب الرئيس السوري بشار الأسد يأتي في لحظة يتلاقى فيها تحت الظلال الوارفة للمؤسسة التي فقدت دورها وخطورتها، الجمعية العام للأمم المتحدة، وتحت لافتة حوار الأديان، مجموعة من القادة العرب مع كبار المسؤولين في إسرائيل يتقدمهم رئيسها شيمون بيريز.حتى لو صدقنا القول بأن الإطار للقاء غير سياسي، وأنه لن يشهد مصافحات أو ما يمكن اعتباره وثيقة تدل على اعتراف تلك الدول العربية التي لم تعترف بعد بإسرائيل، ولم تقم معها علاقات رسمية معلنة،.. وحتى لو صدقنا أن النيات تهدف فعلاً إلى توظيف التلاقي في أحضان الأديان من أجل تعزيز الدعوة إلى السلام بين الشعوب،… فإن نظرة واحدة إلى واقعنا العربي تكفي لكي نعرف أن الذاهبين إلى التصالح مع أتباع الأديان الأخرى، وبالذات اليهودية، تكاد أخطاء سياساتهم تغرق شعوبهم (المسلمة بأكثرياتها الساحقة) في دمائها، نتيجة اعتماد الفتن الدينية والطائفية والمذهبية كأسلحة في الصراع السياسي الذي لا تفيد منه إلا إسرائيل ومشروع الهيمنة الأميركية على المنطقة.إن القادة العرب يكرسون انقسامهم، وتناقض مواقفهم مع المصالح الحيوية لشعوبهم، بما يمكن منهم أعداءهم والعاملين للهيمنة على بلادهم ومواردهم ولو بالاحتلال العسكري (العراق نموذجاً)..ولقد أحسن الرئيس السوري بشار الاسد توصيف الواقع العربي حين قال: »نحن في قارب واحد، ومن الواضح اليوم أن الدول التي لا يجمعها قارب واحد تحاول صناعته… والسرب العربي قيادته حتماً عربية، وقراره يصنع هنا، في بلداننا، من قناعاتنا ولمصالحنا.. أما الفلك العربي فلا يمكن لشمسه أن تكون إسرائيلية ونحن كواكب ندور حولها وإلا فالتصادم والفناء«.[ [ [المناسبة في أصلها عادية، لكن المصادفة في التوقيت مع قدوم الإدارة الأميركية الجديدة، تعطي الكلام دلالات أعمق وأقوى…. هذا بشرط ألا يذهب العديد من المسؤولين العرب إلى الإدارة الأميركية الجديدة ليقولوا لها: إن هذا الكلام لا يعبر عنا.. فنحن سنكون معكم ولكم أكثر مما كنا مع الإدارة التي هزمتم، لأنكم أميركا… ونحن لا نتدخل في شؤونكم الداخلية، نحن مع من حكم ولمن حكم، والسلام!

Exit mobile version