طلال سلمان

بشار اسد وسوريا عرب

رافقنا الثلج هيناً في الذهاب، ورافقنا الثلج عاصفاً في الإياب، لكن المهمة كانت تستحق… فماذا أهم من أن تسمع من مسؤول عربي في مستوى رئيس الجمهورية العربية السورية موقفاً شجاعاً، هو الوحيد على هذا المستوى، لا يدين العدوان الأميركي (البريطاني) على العراق فحسب، بل يؤكد أن المقاومة الباسلة التي باشرها العراقيون، شعباً وجيشاً، قد أسقطت سلفاً احتمال أن يبسط الاحتلال سيطرته على أرض الرافدين.
يكاد يكون في مستوى الأمل بل الرجاء أن يكسر مسؤول عربي جدار صمت التواطؤ والتخاذل والرعب والخوف على العرش… ولقد فعلها الرئيس السوري بشار الأسد!
بادر بشار الأسد إلى أداء دور سوريا المتوقع دائماً: أن تعوّض غياب العرب الآخرين في نصرة الشقيق المستهدف بالعدوان، فجهر بتضامنه مع العراق المقاوم، كاشفاً مخطط الهيمنة الأميركية (وبالقوة) على الدنيا العربية جميعاً ولا سيما تلك التي تتفجر أرضها بالذهب الأسود.
إنها الأمانة لصورة سوريا التي تتعامل مع نفسها، وتتعامل مع العالم، وكأنها الصورة المقرّبة للعرب. أفليست هي »قلب العروبة النابض«؟! ومن هذا الموقع بالتحديد تكلم بشار الأسد، مستفيداً من تراث عريق في سوريا، جسّده من قبل حافظ الأسد، وهو قد أخذه بدوره عن العديد من القيادات الفكرية والسياسية والشعبية التي اعتمدت عروبتها شهادة لأهليتها.
ليست مصادفة أن المسؤول السوري نادراً ما يتحدث في الشأن المحلي.. وهو إذا ما تحدث فيه فإنما بوصفه »انعكاساً« للوضع العربي، أو »عامل تأثير« فيه أو »قوة استنهاض« للوضع العربي… لكأنما لا سوريا بلا عروبة.
وفي العادة يتم الكلام مع سوريا وكأنها »العرب«، كذلك فهي تعطي نفسها غالباً حق الكلام باسم العرب… ومن يتحدث مع سوريا، سواء من الشرق أو من الغرب، فكأنه يتحدث مع »العرب« وإلى »العرب« وعن »العرب«.
وما الاهتمام الواسع النطاق بحديث الرئيس السوري بشار الأسد إلى »السفير« أمس، إلا دليل إضافي على خطورة موقع سوريا في مواجهة المخاطر الداهمة متمثلة في العدوان الأميركي على العراق… خصوصاً انه وصّفه بواقعه: ان هذا العدوان خطير بذاته وأخطر بكونه مقدمة لمخطط الهيمنة الأميركية المطلقة على المنطقة العربية برمتها، بكياناتها السياسية وموقعها الاستراتيجي وأهميتها الإسلامية، وما هو أجدى بالسعي اليه: النفط ثم النفط ثم النفط!
لقد أوحى الرئيس السوري الشاب انه في صلب مقاومة مشروع الهيمنة هذا… وكاد ينذر بفيتنام عراقية.
وهو لم يقل هذا الكلام »من الخارج«، وبوصفه »خبيراً أجنبياً« بل قاله من موقع »المعني« بل »الشريك«، كونه مستهدفاً في بلاده وبذاته. وبالتالي فهو لا يدفع عن نفسه هذا الهم، بل يعلن انه طرف فيه.
ومنطق بشار الأسد بسيط: ان الانتصار السهل للأميركيين على العراق إنما ينصر شارون في حربه على فلسطين، بما هي قضية
العرب وعنوانهم، وينصر الاحتلال الإسرائيلي وخططه للتوسّع على حساب الغد العربي.
يتصل بذلك ان الفشل الأميركي في العراق يحجّم »الانتصار« الإسرائيلي ويحسّن شروط التسوية في فلسطين، كما تثبته التصريحات المتكررة لقائدي العدوان: جورج بوش وانطوني بلير.
ليست الشجاعة وحدها ما أملى على بشار الأسد الموقف الذي جهر به في حواره مع »السفير«، أمس، لكنه بعد النظر أيضاً، والاستعداد لما يدبر لسوريا كما لمختلف ديار العرب..
ولو ان المسؤولين في الدول العربية الأخرى، ذات الوزن أو ذات النفط، كانوا في مثل بعد نظره، لتبدل الموقف تماماً: عربياً، وإسلامياً ودولياً، ولما وقع العدوان الأميركي على العراق…
ان سوريا، ومن قلب موقعها »العربي« تملك حساسية خاصة تجاه الأجنبي، وتستطيع، أسرع من غيرها من الدول العربية بكثير، ان تلتقط أو تستشعر التحولات في »الخارج« تجاه العرب، وبالذات في دول الجوار العربي..
وهكذا فإن بشار الأسد قد تنبه، أسرع من المسؤولين العرب الآخرين، الى التقاط التحول في الموقف التركي، وسعى الى الافادة منه وتطويره… تماماً كما كان والده الراحل حافظ الأسد الاسرع بين المسؤولين العرب في التنبه الى التحول العظيم الذي أحدثته الثورة الإسلامية في إيران والافادة منه في تعزيز الصمود العربي في وجه العدو الإسرائيلي ومخططات الهيمنة الأجنبية على المنطقة.
كذلك فإن بشار الأسد استطاع ان يفيد من وجود سوريا في مجلس الامن ليوفر حضوراً عربياً كانت الدول الاوروبية المعترضة على مشروع الهيمنة الاميركية في أمسّ الحاجة اليه، خصوصاً ان الموقف الاوروبي بمجمله كان فوق متوسط الموقف العربي.. هذا ان كان ثمة موقف عربي موحد.
ولقد عوّض صوت سوريا في مجلس الامن غياب النظام العربي، عن ساحة المعركة، بل إنه منع تمادي المتواطئين العرب في التحاقهم بمشروع الهيمنة الاميركية.
وأخيراً فإن بشار الاسد قد أعطى الجواب »العربي« و»الاسلامي« الذي كان ينتظره البابا في الفاتيكان بقدر ما كانت تنتظره »أوروبا القديمة«، لكي يستقيم نصاب المواجهة مع مشروع الهيمنة الاميركية المعزز بالتأييد الصهيوني داخل الادارة الاميركية والذي يدين بالولاء المعلن للسفاح ارييل شارون وعصابته من العنصريين الاسرائيليين.
واذا كان بين اللبنانيين من ترجم هذا الموقف بأنه »رسالة محلية« فإن البابا في الفاتيكان ودول أوروبا القديمة ومعها روسيا، تفهمه على حقيقته، وتحفظ له بالتالي موقعه المميز..
.. هذا من دون ان نغفل الاثر الطيب الذي تركته »رسالته اللبنانية«، وهو أثر يتبلور عما قريب في رد التحية بأجمل منها، وسيكون بمضمونه تعزيزاً لهذا الموقف القومي لسوريا العربية في مواجهة العدوان الاميركي بوصفه مقدمة لمخطط الهيمنة الاميركية على المنطقة جميعاً، وما قبلها وما بعدها عبر المتوسط…

Exit mobile version