طلال سلمان

بشار اسد في لندن شعرة معاوية وشعار تشرشل

بشار الأسد في لندن، اليوم، في أول زيارة رسمية يقوم بها رئيس سوري للمملكة المتحدة..
خبر الزيارة، بحد ذاته، هو الحدث، حتى من قبل أن تبدأ، ومن قبل أن تُعلن نتائجها.
ليس فقط لأنها »الأولى« يقوم بها رئيس سوري إلى بريطانيا، منذ أن قامت دولة سوريا في ما تُرك لها من »أرضها« الطبيعية بعد تقسيمها (بل تمزيقها) بالمعاهدة البريطانية الفرنسية (سايكس بيكو) في أعقاب الحرب العالمية الأولى وضمن عملية تقاسم »أملاك« الأمبراطورية العثمانية التي صارت إلى الاندثار..
وليس فقط لأن العلاقات العربية البريطانية، عموماً، والسورية البريطانية خصوصاً، لم تعرف »الحرارة« و»الود« عبر تاريخها، بل لعلها كانت إلى »العدائية« أقرب منها إلى الودية أو حتى إلى العادية…
وليس فقط لأن الدور البريطاني كان »مدمراً« ليس فقط لكثير من أحلام العرب القومية ومن مراهناتهم أو أوهامهم السياسية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، بل كذلك لبعض كياناتهم وحقوقهم السياسية في أرضهم… ولذا ظل من الصعب عليهم أن ينسوا الدور البريطاني المتواطئ في إقامة الكيان الصهيوني في العام 1948 على أرض فلسطين وحقوق شعبها فيها، الذي سرعان ما أعقبه التواطؤ العلني المفضوح مع العدو الإسرائيلي خلال العدوان الثلاثي على مصر الثورة في العام 1956.
بل ان »الزيارة« حدث استثنائي في توقيتها في لحظة تلامس »ساعة الصفر« في مشروع الحرب الأميركية الظالمة على العراق.. وهي الحرب التي تلعب فيها بريطانيا بلير دوراً يتراوح بين الترويج والتبرير والتسويق وبين الادعاء (المضمر) بأنها »تماشي الرئيس الأميركي الجاهل والهائج جورج بوش وإدارته المتعصبة والحمقاء لتتمكّن من ردعه عن المغامرة العسكرية المدمرة وغير المبررة« والتي ستكون أشبه بزلزال تتعدى الانهيارات الناجمة عنه حدود العراق بل والأرض العربية الفسيحة، على اتساعها، لتهدد كيانات وأوضاعاً وتحالفات وصداقات ومصالح في أربع رياح الأرض..
وما بين الحدين (الترويج والردع) غامض ومغلف بألغاز هذه العلاقة الفريدة في بابها التي تربط بين الأمبراطورية العجوز التي غربت عنها الشمس فعلاً، وبين مستعمرتها القديمة ومستقر »أحفادها« التي تحاول الآن أن تحتل الشمس ذاتها لتمسك بخيوط النور تمنعها عمّن تشاء وتمنحها لمن ترضى عنه..
ذلك أن المحادثات التي ستشهدها هذه الزيارة محكومة بأن تتجاوز نطاق العلاقات الثنائية (وهي في أي حال مستجدة ومحدودة) وأن تلامس نقاطاً متفجرة كثيرة قد يكون العراق أولها وأخطرها، لكن فلسطين وانتفاضتها والحرب الشارونية المفتوحة عليها، أرضاً وشعباً وكياناً موعوداً وحقوقاً تاريخية، لن تغيب عنها، وكذلك الدور السوري هنا وهناك، فضلاً عن لبنان وإيران والأردن ومصر والسعودية وأقطار الخليج عموماً.
وحدها زيارة الرئيس السوري، وبهذا التوقيت، تكون »زيارة عربية مائة في المائة«، لن تشغل فيها العلاقات الثنائية إلا حيّزاً ضيقاً في حين أن صلبها سيكون حول الغائبين: الأطراف العربية المعنية والولايات المتحدة الأميركية، بغير أن ننسى الموقف الأوروبي المهددة وحدته بالحرب الجديدة.
..وقبل سنوات كان سفير بريطاني اشتهر بالدهاء قد قال في مجلس خاص في بيروت: »لقد اقتنعنا، نحن الإنكليز، بأن بريطانيا العظمى، الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس قد اندثرت، وبأن الولايات المتحدة الأميركية هي الأمبراطورية الكونية الجديدة… ولذلك فقد قررنا أن نكون بيت خبرة، وأن نكتفي ببيع خبرتنا للأمبراطور الجديد، خصوصاً أنه غاية في الثراء«.

هي الزيارة الأولى ولكنه ليس اللقاء الأول بين الرئيس السوري ورئيس الحكومة البريطانية.
ولقد سبق لبشار الأسد أن واجه طوني بلير، وهو ضيفه في دمشق، بموقف سوريا المبدئي والثابت في دعم النضال الوطني الفلسطيني وحق هذا الشعب المجاهد والمضطهد والمظلوم في استخلاص حقه في أرضه، حتى بالكفاح المسلح، وفي دولة له فوق أرضه، أو ما تبقى منها.
يومها أفحم بشار الأسد طوني بلير حين أثار معه موضوع »استضافة« سوريا مكاتب المنظمات الفلسطينية الساعية من أجل التحرير، بأن ذكّره بأن لندن لم تكتف باستضافة »الجنرال الطريد« شارل ديغول وتنظيمه المحدود »فرنسا الحرة« بعد سقوط باريس تحت الاحتلال الألماني في بدايات الحرب العالمية الثانية، بل أنها رعت تلك المنظمة الوليدة (في المنفى) وموّلتها وسلحتها ورضيت بأن تعاملها كطرف حليف وكامل الحقوق في الحرب ضد النازية.
* * *
من المؤكد أن ما يفرّق بين لندن ودمشق في السياسة أكثر بكثير ممّا يقرّب بينهما. والاختلافات (المعلنة) عميقة وجدية حول الأساسيات. لكن ذلك لا يمنع من قيام »علاقات طبيعية« بين دولتين مختلفتين في التوجهات، وفي المصالح، إلا في حدود تقاطعات محدودة.
ولعل ما يميّز الرئيس السوري الشاب روح الاقتحام والمواجهة المباشرة للمواقف والسياسة المعقدة، بالاعتماد على منطق المصالح والقراءة الدقيقة لمساحات الاختلاف والاتفاق: من فرنسا البوابة الآمنة، إلى ألمانيا الطامحة إلى تعويض اللمعان السياسي بالدور الاقتصادي المجزي، ومن إسبانيا حيث احتلت وقائع الحياة مساحة ذكريات الماضي، إلى بريطانيا »العدو الذي ليس من صداقته بد«.
»لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة… بل مصالح دائمة«، هكذا قال ونستون تشرشل، أو هكذا سلك أسلافه ومن جاء بعده.
لكن معاوية، مؤسس الدولة (الأمبراطورية) الأموية والذي اختار دمشق عاصمة وأخذ منها الكثير هو من قال قبل تشرشل بألف وثلاثماية سنة تقريباً: »لو كانت بيني وبين خصمي شعرة لما قطعتها«.
* * *
يفترض المنطق أن كلا الرجلين، بشار الأسد وطوني بلير، يتعاملان بلا أوهام… فلا الأسد يراهن على »تقريب« أو »إقناع« الحكومة البريطانية من الحقوق العربية وإبعادها عن الحليف القائد: الولايات المتحدة الأميركية..
ولا بلير يراهن على استمالة الأسد بحيث يُبعده عن فلسطين أو يستعديه على العراق، أو يفصله عن شركاء مصيره العرب، في الجزيرة والخليج، أو في الأردن ومصر، ناهيك بالحليف الاستراتيجي إيران، وبشريك وحدة المصير لبنان، بمعزل عن التقييم النهائي للأنظمة والقيادات الحاكمة في هذه الأقطار.
لكن من حق الأسد أن يراهن على أن بريطانيا ستسمع بأذن المصالح لا العواطف الموقف السوري المعترض مبدئياً وعملياً، عاطفياً ومصلحياً، على مشروع الحرب الأميركية (البريطانية؟) على العراق..
.. وعلى التجاهل الأميركي الذي شارف حدود التحدي للعرب مجتمعين، لحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، والتعامي بل المساندة الأميركية المفتوحة للحرب الإسرائيلية المفتوحة التي يشنها شارون ضد هذا الشعب العربي الأعزل والمعزول عن أهله وعن بعضه البعض، فكل قرية مفصولة بالنار عن جارتها، وكل مدينة معسكر اعتقال معزول عن معسكرات الاعتقال في المدن الأخرى وبينها بيت لحم التي لا يعرف السيد المسيح طريقه إليها وإلى كنيسة مهده فيها حيث وُلد قبل ألفي عام وسنتين!
وبالتالي فقد يكون من حق بشار الأسد الافتراض أن هذه الدولة العتيقة التي اشتهر سياسيوها بالدهاء، يمكنها أن تلعب دوراً في »ترشيد« هذه »الإدارة الأميركية الغبية« بالتعصب والمنساقة وراء عظمة القوة ولو على حساب المجد المعنوي (والمادي) الذي يوفره لها إسهامها المؤثر في مجالات الإنجاز العلمي الباهر والتقدم التكنولوجي المذهل والتفوق الاقتصادي غير المسبوق.. عالمياً.
* * *
في أي حال فإن بشار الأسد لن يعود خاسراً من لندن، حتى لو لم ينجح بالكامل في تحقيق أهداف مهمته القومية، في منع الحرب الأميركية الظالمة عن العراق، أو في منع التدمير المنهجي الكامل لفلسطين المحتلة.. سيكون له، على الأقل، شرف المحاولة في منع خطر داهم عن شعب عربي شقيق.
… وسيكون قد حقق إنجازاً إضافياً في كسر حلقات الحصار الذي كان مفروضاً حول سوريا، بسبب من مواقفها المبدئية وحرصها على استقلالية قرارها، من غير أن يقدم تنازلات تذهب بوهج الموقف المبدئي بغير أن تحقق مكاسب مادية ذات شأن.
إن محاولة التخاطب بالمصالح أجدى في التأثير من المكابرة أو من التجاهل وإدارة الوجه عن مصدر الخطر.
لم يعد بشار الأسد، الآن، ذلك الطالب العربي السوري الذاهب إلى بريطانيا ليتخصص في بعض جامعاتها في طب العيون.
إنه الآن في »زيارة دولة« تعبّر، أكثر ما تعبّر، عن »بُعد نظر«.

Exit mobile version