طلال سلمان

بشار اسد في سنتة خامسة

مع ختام السنة الرابعة لرئاسة الدكتور بشار الأسد، تبدو دمشق هادئة بأكثر ممّا يتوقع القادم بقلقه إليها، بالمقارنة مع سائر العواصم العربية التي زلزل »استقرارها« المتوهّم، ورسوخ اطمئنانها إلى حلفها مع »الصديق الأميركي الكبير« الانهيار المفجع في حجمه كما في سرعته لنظام الطغيان في العراق، فضلاً عن تحول السياسة الأميركية إلى العمل العسكري المباشر، بغير مبرّرات مقنعة.
أربع سنوات؟! ما أقصرها في الزمن، وما أثقل التطورات والتحولات التي شهدتها، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، والتي فرضت سياقاً جديداً للأحداث، وبدلت في التحالفات والعداوات، حتى ليبدو »عالم ما بعد 11 أيلول 2001« كأنه مجرد مدى حيوي للإمبراطورية الكونية الأميركية، تضيق فيه المساحة الأوروبية، وتشحب فيه صورة روسيا ومعها الصين (وإن اختلفت الأسباب) بينما يتعاظم حجم التأثير الإسرائيلي في الداخل (الأميركي) وفي الخارج.
أربع سنوات؟! لكن المهمات الخطيرة التي طرحت نفسها على الرئيس الشاب حتى من قبل 11 أيلول 2001، لم تكن تتحمّل تأخير القرار لمن جاء خلفاً للكبير حافظ الأسد، الذي طالما اشتهرت عنه دراسته المتأنية لحركة صراع القوى من حوله، وتجميع أوراق الضغط حتى وهي محدودة للتوازن، وتحديد موقفه في اللحظة الأخيرة، والذي أبطأ المرض حركته عشية غيابه، فكان لا بد من الحسم في أمور كثيرة معاً لتعويض الفائت من الوقت ومن وتيرة الإنجاز الذي تحتاج إليه سوريا ودورها المؤثر في منطقتها.
.. فكيف الحال بعد تفجيرات 11 أيلول التي جعلت الإدارة الأميركية، المطعون في نزاهتها والمتعجلة إسقاط ظلها على الكون، والمتماهية مع المشروع الإسرائيلي، في موقع المعتدى عليه، وبرّرت لها أن ترد على كل من تحدده مصالحها ومطامحها وكرامتها عدواً، حتى لو تجاوزت في توجيه العداء، أو افتأتت على دول وشعوب وقوميات وأديان فقرّرت الانتقام منها لأسباب لا تتصل من قريب أو بعيد بالتفجيرات التي أصابتها في قلب درة الإمبراطورية (نيويورك) أو في قلب مركز القرار في واشنطن (البنتاغون).
أربع سنوات؟! لكنها طويلة ومثقلة بكل ما لم يكن متوقعاً من أحداث جسام بدلت الكون، بدءاً بالخريطة العربية، ولما تنته تداعياتها بعد… لكن دمشق تبدو وحدها الهادئة، بأكثر ممّا يقدر القادم إليها، وسط محيط شديد الاضطراب.
لا هي أرعبتها فأربكتها وضعضعت توازنها التهديدات حتى عندما باتت في مرمى النار الأميركية (فضلاً عن الإسرائيلية)، ولا شلّها الخوف، بل هي مضت في نهجها المتماسك، تتجنب استفزاز »الثور الهائج«، ولكنها لا ترفع يديها استسلاماً بالرعب المسبق من غضبه أو من حمى »الثأر« التي حكمت ولعلها ما تزال تحكم قرار إدارة جورج بوش و»اليمين المحافظ« الذي يوجهها، وهو صهيوني النزعة بلا مواربة أو تحفظ.
* * *
من أين ينبع هذا الهدوء الذي ميّز دمشق وقرارها السياسي أقله في العقدين الماضيين، والذي ما زال يميّزها في عهد رئيسها الشاب الدكتور بشار الأسد؟!
وإلى ماذا تراه استند بشار الأسد في موقفه الشجاع من الاحتلال الأميركي للعراق، فلا هو خضع كما غيره لإملاءات الإدارة الأميركية التي قفزت فجأة من مأزقها في بغداد لتطالب الرئيس السوري برأس ما تبقى من إرادة المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي ومجازره اليومية وممارساته التي لا تخفي غرضها في طمس القضية، أرضاً وشعباً وسلطة، وبين عناوينها الإجرامية المضي في بناء جدار الفصل العنصري، برغم قرار محكمة العدل الدولية، وهي أعلى سلطة قضائية في العالم؟!
… ولا هو استجاب للضغوط المتواصلة (سياسياً وعسكرياً واقتصادياً) لإجباره على التسليم بشرعية »الحكم« الذي أقامته سلطات الاحتلال، في بغداد، بحرابها، والذي يحاول الادعاء أنه قد حاز »السيادة« عبر تلك الوريقة التي تسلمها من »دكتاتور العراق« بول بريمر في احتفال الخلسة الشهير؟!
.. ولا هو خضع للمطلب الإسرائيلي الدائم بالدخول في مفاوضات جديدة بشروط الاستسلام التي قبلها غيره، في زمن مضى…
.. ولا هو أصابه الرعب نتيجة »قانون محاسبة سوريا وإعادة السيادة إلى لبنان«، الذي أقرّه الكونغرس بما يشبه الإجماع، ووقعه رئيس الإدارة الأميركية ثم »خالفه« بتعيين سفير أميركي جديد في دمشق وقبول أوراق اعتماد السفير السوري الجديد في واشنطن؟!
للحقيقة فإن المتأمل في الواقع السوري لا يسعه إلا أن يسجل بالتقدير صلابة الوطنية والإيمان العريق بالعروبة، والتكاتف العظيم للشعب العربي السوري وهو يجهر برفضه الاحتلال، وباستعداده للمقاومة ما وسعه المقاومة، إذا ما أغوت سهولة اجتياح نظام صدام حسين في بغداد المحتل بأن يمد ظلاله السوداء إلى سوريا التي كانت تمور بالاحتجاج والغضب على الانهيار المفجع للنظام الكرتوني بكل ما في ذلك النظام ثم في انهياره من إساءات إلى كرامة الشعب العراقي والعرب أجمعين.
ولقد همهمت أصوات محدودة في سوريا بالدعوة إلى شيء من »التساهل« مع »المحتل الجبار« بذريعة حماية النظام، وحتى لا

تكتمل دائرة الحصار عليه: إسرائيل من الجنوب، والجيوش الأميركية من الشرق، وتركيا بعقدة التاريخ من الشمال، ولبنان بكل تعقيداته من الغرب..
لكن القرار الشجاع للرئيس الشاب برفض التسليم باحتلال العراق كأمر واقع والتعامل معه، بالاستناد إلى تلك الروح الوطنية الراسخة التي عبّر عنها الشعب السوري، بمختلف تلاوينه السياسية، كانت هي السند، إضافة إلى قراءة ذكية لمواقف القوى المختلفة، والتي فرضت على سبيل المثال التحول في تركيا، وهو تحول فتح الباب عريضاً أمام لقاء سياسي كان له تأثيره الواضح، أمس، وسيكون له شأن أكبر في المستقبل.
والحق أن هذه الوطنية السورية لا تفتأ تتفوق على ذاتها… فقد جمّد »المعترضون« طلباً للإصلاح في الداخل، وكذلك المعارضون للنظام منذ قيامه، اعتراضاتهم، وأعلنوا جميعاً التزامهم بالواجب الوطني والقومي للدفاع عن سوريا بنظامها، تحت قيادة الدكتور بشار الأسد، مرجئين أي بحث في مطالبهم إلى أن يزول الخطر الخارجي الداهم فيتسع المجال لحوار صحي بين الأطراف جميعاً من أجل حياة سياسية سليمة تستند إلى قاعدة صلبة من الوحدة الوطنية.
حتى من كانت تحكمهم لوثة الدم، ممّن واجهوا النظام بالسلاح، في الماضي، قدموا سلامة الوطن بنظامه على كل ما عداه، فلم يجد الاحتلال صوتاً سورياً واحداً يرحب به، لا في الداخل ولا في الخارج، كما لم يجد مواطناً سورياً واحداً يجهر باستعداده للتعاون معه، بذريعة الاستعانة به على النظام الذي طالما قاتله.
قدم الجميع سلامة الوطن على مختلف المطالب الإصلاحية التي كان الرئيس بشار الأسد قد بادر إلى فتح باب الحوار حولها، بل هو »حرّض« عليه في حالات مشهودة، فقامت في ظل هذا التحريض منتديات وتشكلت أطر لدراسة »الثابت والمتحوّل«، أو الممكن إنجازه والمتعذر تحقيقه، سواء على صعيد »قيادة الحزب للمجتمع والدولة« أو على صعيد القرارات الاقتصادية المطلوبة ومراجعة دور القطاع العام بعد تكشف عدم النجاح في تجربته الطويلة ووجوه القصور والإنجاز، في ضوء التحولات الهائلة التي اجتاحت الكون في العقدين الأخيرين.
وليس سراً أن بعض الخائفين على مكاسبهم أو على مواقعهم كان يفضل صلحاً استباقياً مع الاحتلال، بشعار أثبتت الأيام خطله، مفاده »أن النظام أهم من الأرض«، (وبالتالي من الشعب)، وبالتالي فلا بأس من التضحية ببعض المواقف، أو حتى ببعض السمعة الوطنية للنظام، لأنه »متى تمّ تجاوز الخطر أمكن تعويض ما خسر، أما إذا ذهب النظام فلسوف يذهب كل شيء«!…
.. وكان أن اتخذ الرئيس الشاب القرار الحاسم والشجاع بعدم التسليم باحتلال العراق، وبهدف حماية سوريا وشعبها وكرامته، أولاً وأخيراً.. فلم ييأس أصحاب الأصوات المتخاذلة، ولكنهم اندفعوا يركزون هجومهم على »مَن زوّد الرئيس بالمعلومات الخاطئة« و»حرّضه على التصلب« في مواجهة أعتى القوى الاستعمارية ممّا سوف يهدد النظام جميعاً. وكان للخارجية النصيب الأوفر من السهام المسمومة، ولبعض الرجال في الأجهزة الأمنية نصيبهم من هذه الحملة المسعورة.
لكن الحقيقة الخالدة أكدت نفسها: ان الشعب هو الأعظم دائماً، بحسه الوطني السليم، وبشعوره المرهف تجاه الصح والغلط، وبتشوقه إلى مشاركة من يصدقه فيصدقه من حكامه في حماية القرار والإرادة الوطنية.
وها هو الشعب قد أعطى بشار الأسد، وما زال يعطيه بغير منة، مقدراً الظروف الصعبة التي يواجهها، متوقعاً أن تحسم الإرادة السياسية الكثير من القرارات المرجأة، والتي باتت حيوية جداً لتمتين الموقف الوطني بالتأييد الشعبي المشفوع بوعي عالي المستوى يتجاوز الحماسة إلى رص الصفوف لمواجهة سوف تطول، وسوف تشمل كل قطاعات الإنتاج، وسوف تحتاج إلى كل الناس، بغير استثناء يستند إلى ملفات الماضي، الذي صار سحيقاً في بُعده عن معطيات الحاضر.
* * *
أربع سنوات؟! لكم تبدو هذه المرحلة طويلة من بيروت، العاصمة النوارة للصمود اللبناني التي شكلت وتشكل، بموقفها الوطني، السند الداعم والحامي للموقف الوطني والقومي الذي التزمته سوريا بشار الأسد، مشياً على خطى حافظ الأسد.
لكن الحديث عن بيروت وضرورات تأمين صمودها بعمل سياسي على مستوى النضوج اللبناني، وليس على مستوى الطبقة السياسية الحاكمة فيه، التي تأخذ من سوريا (ومن اللبنانيين) كثيراً وتعطي القليل، حديث يطول، قد يشوّش على المناسبة الطيبة… وإن كان من الضروري الإشارة إلى أن هذا الوضع المتردي، والمتفاقم خطورة في أروقة الحكم وعلاقته باللبنانيين، قد يصيب بالضرر الموقف السوري ذاته.
والوضعان مترابطان عملياً بمعزل عن الشعارات وتجارها الذين كثيراً ما حوّلوها إلى مواقع نفوذ غير شرعي وغير مشروع، وكثيراً ما جنوا منها الثروات الحرام.
لكن ذلك حديث شجون، فلنرجئه إلى ما بعد التمني بأن تكون السنة الخامسة من ولاية الرئيس بشار الأسد هي الأعظم إنجازاً، في الداخل والخارج.

Exit mobile version