طلال سلمان

بساط الريح

هي… أقرأ أكثر ما تكتب وأهتم اهتماما خاصا بما تنقله عن هموم الناس. كتبت كثيرا عن المرأة. أشاركك الاعتقاد أن الأساس لفهم المجتمعات هو فهم أسباب معاناة المرأة وهذا ما تلمح به أحيانا. أنت متهم بأنك تبالغ في تضخيم دور المرأة في  صعود المجتمعات وانحدارها.

***

هي… كان أسفي شديدا لعدم حضورك حفل استلامي جائزة التفوق. اذكر أن استاذي كان حريصا على أن يعتذر عن غيابك لسفر مفاجئ. انشغلنا بعد الحفل.  انشغل كلانا. انشغلت أنا بتنفيذ عهود كانت بين عهود قطعتها على نفسي في الصغر. هل تصدق أن لا أحد في حياتي يعرف الكثير أو حتى القليل عن هذه العهود. هل تصدق أني وإلى وقت قريب كنت اعتقد أن ما مررت به في مرحلة من حياتي لا يمكن أن يكون قد مرت بمثله فتاة غيري. هل تصدق، وأعدك بأن يكون آخر أسئلتي لك، أنني ما كنت استأذنت في هذه الزيارة لو لم أكن قطعت عهدا على نفسي قبل عشرين عاما أن اطلب زيارتك لأحكي لك وحدك ما لم أحك عنه لأحد من قبل وما لن يعرفه أحد بعدك. رجائي الوحيد أن تسمعني إلى النهاية، وأعرفك بارعا في الاستماع وشديد الإخلاص في الكتمان.

***

 هي… كانت أول من صعدوا إلى السيارة ويدها في يدي تجرني خلفها. أفسحت لي مكانا في المقعد العريض فأفسحت لبعض أحمالها مكانا في حجري. شعرت بها تصوب بركن العين ناحيتي نظرات فاحصة ولكن حنونة. صرت أعرف أنواع النظرات. أعرف نظرات الفضول من نساء يعرينك لفضح ما تحاولين ستره. وأعرف نظرات الشره من رجال يعرينك تمهيدا لتنفيذ خطة انقضاض، هي الخطة التي استعملها الرجل البدائي في مرحلة توحش. غريب أمر هذه المرأة التي اجلستني بجانبها. خرجت النظرة الثانية كما توقعت من ركن العين ذاته ولم تستغرق لحظة، كانت كافية لتغطيني من قمة رأسي حتى أصابع القدمين. صدقني، لا زلت أذكر تلك اللحظة فترتعش أطرافي وتتعالى أنفاسي في صدري تماما كما يحدث لي الآن وأنا أحكي لك. لا استطيع أن أصف لك بالوضوح الكافي ما فعلته بي نظرتها. تخيل شعورك خلال لحظات سكون طويلة، سكون من حولك وفي داخلك، سكون ليس كالسكون، سكون لذيذ، سكون حنون. تسألني عن شعوري وأنا بجانبها أنعم بأنفاس عطرة ونظرات متفهمة تكاد تمسك بأهداب عوني. أنا لست في سيارة تنهب الأسفلت الساخن ويختنق ركابها بدخانها ودخانهم، أنا استلقي في صحبة ملاك فوق سجادة تتهادى فوق حقل زهور ممتد حتى الأفق.

***

ساد صمت في غرفة مكتبه قطعته محدثته لتطلب بعض القهوة الساخنة. عرض عليها إن شاءت صنع قهوتها بنفسها. وافقت وصنعا القهوة وعادا بها. احترم وعده فلم يعلق على حديثها بكلمة إنما جلس مطرق الرأس مستمتعا بأجواء سكون عمت المكان وفي انتظار أن تستأنف حكايتها. قطعت السكون مرة أخرى لتقول “تعرف أنني اقترب من الستين من عمري، كتبت في القانون كتبا ثلاثة، ألقي محاضراتي في جامعتين، عضو في جمعيات علمية وأكاديمية عديدة، واحدة منها تهدف إلى نشر الوعي بالعلم وآفاقه اللامحدودة”. تدخل معلقا، “كل هذا أعرفه وأقدره، أعرف أيضا أنك بعيدة عن عالم الخرافة والوهم. ولكني الآن حائر وأحاول أن أفهم”.

***

هي. انتهت رحلة السيارة في دقائق، أو هكذا حسبت. لم تدع رفيقة السفر راكبا يشدني إلى حديث، حتى السائق دفعت له عني الأجرة هامسة في أذني أننا سوف نتحاسب عند الوصول. أدركت بعد وقت طويل أنها خلال الرحلة لم تدع صوتي  يعلو فيسمعه راكب ولم تسمح لأحد بتبادل عبارات التعارف معي. كانت تتدخل بسرعة لا تصدق لمنعي من الإجابة على سؤال للسائق أو أحد الركاب. نزلنا من السيارة لنجد في استقبالنا “السايس سامح”. وجه لها تحية وقورة ولم يبد اهتماما بوجودي معها وكأن وجودي أمر واقع أو متوقع. حمل عنها ما تحمل. لم يمس ما أحمل إلا بعد أن أومأت لكلينا برأسها. مشى أمامنا بما حمل حتى وصلنا إلى سيارة سوداء خرج منها سائق فتح لها بابا ولي الباب الآخر. اختفى السايس سامح كما ظهر.

***

هي… احكي تفاصيل. احكيها لأنني لا أريد أن أنساها بعد أن شكلت هذه التفاصيل طبيعة ومنطق مرحلة بين حياتين لشخص واحد، هذا الشخص هو أنا. أنت تعرف جانبا وربما جزءا منه. ولكنك بالتأكيد لا تعرف الجانب الأهم، جانب النشأة. أذكر  مثلا من التفاصيل رائحة السيارة. صدمتني الرائحة، سمعت أن المدينة صادمة، ولكن لم أعرف أن رائحتها هكذا صادمة، مختلفة وناعمة وطاغية كالسحر. لا بد أنها لبشر غيرنا لهم رئات مختلفة ومنظومات لحاسة الشم غير تلك التي نشم بها ونحن في الحقول في مواسم السماد وعلى ضفاف قنوات الري والصرف وفي بيوتنا المتاخمة لزرايب البقر وعشش الدجاج.

***

   هو…  أستزيد ولا أقاطع. هل سنعرف من هي؟ هل قدمت نفسها لك فتطمئن نفسك ويرتاح بالك؟ استسلمت ولم تقاومي، كيف حدث هذا؟ تتحدثين عن رائحة المدينة كما بدت لك في السيارة ولا تتحدثين عن سيدة اختطفتك من موقف سيارات أجرة في أقصي الريف؟. 

***

هي… توقعت منك هذه المقاطعة منذ أن رأيت القلق يتسرب إلى عينيك وتقاطيع وجهك رغم كل محاولات إخفائه. لا تنسى أنه مر على ما بدأت أحكيه أكثر من أربعين سنة. لم يكن حلما. السيدة كانت حقيقة واقعة. لم تخطفني. قالت ونحن نقترب من السيارة السوداء أنها سوف تصطحبني إلى بيت عائلة لأقوم بأعمال منزلية مقابل الإقامة والملبس ومصروف جيب. ازداد يقيني لحظتها أنها تعرف اسمي وسبب هربي من البيت. ارتعشت يدي وهي تسلمني عند الوصول بطاقة هوية  وبتاريخ ميلاد يضعني في موعد بين تاريخي ميلاد ابنتي سيدة الدار الذي نزلنا به وقبلت العمل فيه. شربت القهوة. كنا خمس. الأم سيدة الدار وابنتاها وأنا و”خاطفتي”.  لا تسألني كيف بدت لي فأنا حتى اللحظة لم استقر على شكل لها أو صوت. أراها حينا ابتسامة لا تفارق وجه ولا تغيب إلا بعد أن تذيب خشية أو شكوكا أو قلقا.   أراها حينا آخر حضنا يوفر شعورا بالأمن لا يغادر إلا وقد نامت جفوني على عيوني.

***

هي… أراك مندهشا وربما غير مصدق. هكذا اطمئن إلى أنك لن تعيد سرد حكايتي لمجموعة أو أخرى من النساء الصاعدات. أنا صعدت لأن الدار التي خدمت فيها ساعدتني. سيدة الدار وفرت الأمان والاطمئنان ودعمت خطة العودة للدراسة.  البنتان وفرتا مساحة تسمح بأن تملأها شقيقة ثالثة وإن كانت افتراضية. قدمتا ما استطاعتا من مواد وخبرة تعليمية تفتح أبواب فلاح ثم تفوق. بالفعل أفلحت. وبالفعل تفوقت وها أنت بجائزتك شاهد. إن نسيت فلن أنسَ الشقيقة الأكبر وقد وقفت في حفل تكريمي الذي اعتذرت أنت عنه لتقول لي أمام الحضور والدموع تفر من عينيها، كرمتك قبل عشرين عاما لقبولك الانضمام شريكة مساهمة في شركتنا للمحاماة، وأعود فأكرمك اليوم وأنت تقبلين هذه الجائزة التي تجعل شركتنا وأنت على رأسها أقوى شركة محاماة في مجالنا ومنطقتنا. ها نحن نعرض عليك رئاسة الشركة، فأقبلي من فضلك.

***

هي… اسمعني جيدا.. ما سوف أقول لن يسمعه غيرك. أنا لم أختطف. تسللت والناس نيام إلى سطح البيت. دموعي تغطي وجهي فتختلط بقذارة تخلفت من أيادي قذرة لا تقدر الجمال ولا تعرف الرحمة. أصعد الدرج زاحفة والدماء تسيل في أماكن ضعيفة من جسدى النحيل. كرهت هذا الجسد، كرهت هذه العائلة التي ولدت فيها ونشأت، كرهت الكذب الذي رضعت وأنا على صدر أمي. خرجت من بيت أبي أكره الملائكة التي لم تنزل لتحميني وأكره الشياطين التي تشق الأرض كل ليلة وتخرج  لتتراقص أمامي فرحا وشماتة بمأساتي. إلى الجحيم كلكم.

هي… عند انبلاج الفجر شعرت بيد تمسح شعري. في ظلام الفجر الحالك لم أرَ أحدا ولكني سمعت من يؤدي في أذني لحنا أحبه همس بعده أن انهضي وألحقي بي. نهضت والتحقت بصاحبة الصوت على ظهر ما بدا لي بساطا يركب الريح نقلنا من مكان وزمان إلى مكان آخر وزمان آخر، وها أنا في مكتبك. جئت أشكرك على الجائزة وامنحك حق أن تكون الوحيد الذي يعرف من أين جئت وكيف وصلت. 

ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version