طلال سلمان

برنامج لمرحلة وليس امر اليوم

دخل اميل لحود المجلس النيابي ليقسم اليمين الدستورية، مباشراً رئاسته، أمس، وكأنه في مهمة قتالية لثورة من أجل التغيير، فقرأ »المانيفستو« وكاد ينصب القوس لمباشرة محاسبة السابقين…
ولعل المبنى، او الحضور، او تهيب الخطورة في المسؤولية، او كل ذلك معاً قد جعله يتذكر أين يتكلم ولمن يوجه الخطاب، او لعل مبالغة بعض أولئك المعنيين بالمحاسبة في التصفيق والتهليل، قد اعادته الى مرارة الواقع فاستدرك يقول مؤكداً: انه رئيس تحت القانون في دولة القانون والمؤسسات، في ظل النظام الديموقراطي البرلماني، منبهاً الناس الذين يريدون التغيير وهو حقهم بأن ذلك مستحيل دفعة واحدة بقدر ما هو غير جائز الا تكون هناك بداية..
فلنقل إذن، ان الخطاب اعلان بمباشرة العمل للتغيير، مع وعي كامل وتحديد دقيق لوجوه الخلل ومصادر الأزمات المعيشية والاقتصادية عامة، لا سيما منها ما يهم جيل الشباب متصلاً بالفقر المانع للعلم والصحة والعمل وبالاجرام البيئي والتهجير والهجرة ورهن السياسة بالطائفية.
أما العذر فيتصل بالنظام الديموقراطي البرلماني حيث »يخضع التغيير لمقاييس واصول، وتخضع فيه السلطات لمبادئ واحكام، تحدد الصلاحيات لكل منها وفيما بينها بحيث يستحيل على احداها منفردة ان تحدث التغيير المرتجى«.
لا أمل بالثورة، اذن، ولا مجال للانقلاب، ولا طريق الا عبر المؤسسات، ولو مطعوناً في صحة تمثيلها او في سلامة أدائها،
لا مجال لأن يصدر »القائد« »أمر اليوم« فيصدع الجميع ويباشرون التنفيذ بلا اعتراض، او مع ارجاء اعتراضاتهم الى ما بعد التنفيذ.
على هذا يستطيع السادة المحتشدون في القاعة العلى شكل حدوة حصان، والتي استكمل تجهيزها باحدث الحواسيب وسائر اللوازم الالكترونية، ان يبالغوا في التصفيق وكأن الكلام موجه الى غيرهم، وان يترنموا بصيحات التطييب »حلو، حلو، طيب، الله..« ولولا شيء من الحياء لصاح بعضهم: »بيس، بيس، او اعد، اعد..«.
الموقف طريف الى حد الغرابة: فالخطاب البرنامج الملبي معظم طموحات الناس في الخارج، يوجه الى من يتوعدهم بالمحاسبة، او يتهمهم بالتقصير، او يدينهم بجرائم الخروج على القانون والتدخل والتأثير على القضاء في اشخاصه واحكامه، وافساد الإدارة، وحرمانها من الكفاءة والنظافة، والتلطي وراء قوة الحماية السياسية والطائفية، وشراء الخدمات بالرشوة والضريبة، واغراق الناس في الجهل بكيفية صرف واردات الضرائب وكيفية مراقبة الأموال العامة، ومطالبتهم بالتقشف بينما الحكام لا يتقشفون، وحرمانهم من معرفة الأرقام التي لا يجوز أن تكون سراً من أسرار الدولة… وصولاً الى التلويح بقطع يد السارق، أيا كان، والمهدر والمنتفع والمرتشي، والوعد بمكافأة الحريص والموفر..
بعد »القرار الظني« لا بد من شيء من التحفظ، والعذر هو هو دائما: النظام!
وهكذا يصل الناس الى الخلاصة التي وقعت عليهم كالفاجعة أو كالصاعقة: »لا أدعي بأن لديّ عصا سحرية، ولكن لديّ النية والارادة، وحتما ستكون هنالك بداية، فلا تستعجلوا الأحكام على الوجوه والأسماء، أيا تكن، وانتظروا الممارسة، ففيها الجواب..«.
لكن الناس مستعجلون، مع الأسف، وسيحكمون على الوجوه والأسماء، لأنهم سيرون فيها الجواب على الخطاب العهد..
ولقد رحب الناس بإميل لحود، في جملة أسبابهم للترحيب، لأنه مستعجل مثلهم، ولأنه يقول بالتغيير، ويعرف أين وكيف، وربما بمن يتم تحقيق ذلك الأمل المعلق دائما فوق رؤوسهم من دون أن يهبط الى حيز الفعل.
* * *
خطاب ثوري في وضع مركب شديد التعقيد، يهدده التغيير بالانفراط؟!
ان الخطاب أقوى من أن يتحمله فينفذه هذا الوضع السياسي الذي يبرر نفسه بالانتقالية ثم يحاول تثبيت ما هو انتقالي ليصيره قاعدة دائمة، متذرعا تارة بدقة الظرف الاقليمي وطورا بضرورة التوازن الطائفي، وتارة ثالثة بالحساسيات المذهبية، ودائما بالاحتلال الإسرائيلي وما يفرضه من دواعي التنبه واليقظة ورص الصفوف والاعتصام بالوحدة الوطنية الفضفاضة التي تتسع للجميع!
على أن اللبنانيين الذين اعتادوا سماع الخطب البليغة التي لا تعكس كلماتها نوايا قائليها، قد سمعوا في نبرة إميل لحود ما لم يألفوه فيها، فاستشعروا الصدق والعزم على مباشرة التنفيذ، أولا بأول، ومحاصرة الخطأ والمخطئين ان تعذر اجتثاثه أو خلعهم ومحاكمتهم فورا.
واللبنانيون من الوعي والتفهم بحيث يرتضون بداية متواضعة، وغير صاخبة، على ان تكون مجرد بداية أو مجرد بند في برنامج جدي يحرص صاحبه على تنفيذه. وهم يعرفون في إميل لحود من العناد ما يجعلهم يأملون بأن تكون النتائج طيبة حتى لو كانت البداية متواضعة، وهذا ما حصل، على أي حال، في الجيش الذي بناه من الصفر، وخاض من أجل بنائه معارك قاسية كادت تطيح به أكثر من مرة.
لعله أسلوب »المحدلة« أكثر منه أسلوب الضربة القاضية.
لننتظر ونر..
على أن أبلغ ما في الخطاب هو ذلك النص الراقي سياسيا والناضج وهو الخاص بالعلاقة بين لبنان وسوريا: »انه لو أدرك اللبنانيون، لا سيما بعض من كان منهم مسؤولا حينذاك، جوهر المبادرة السورية التي أطلقها الأخ الحقيقي للبنان الرئيس حافظ الأسد، لما استمر النزف والدمار الى الأمس القريب..
»لقد كان خطأ سياسيا كبيرا بحق لبنان ان تصرف البعض في الماضي على أن العلاقة مع سوريا هي مراهنة مرحلية، نستعين بها عندما نضعف، ونطعنها عندما نقوى، أو نسايرها حين تقوى وننكرها حىن تضعف متجاهلين اننا إنما نقوى معا أو نضعف معا.
»… فهلا عرف اللبنانيون في موقع الحكم والسلطة ان يوظفوا دعم سوريا لبناء دولتهم ومؤسساتهم فيحبهم الناس ويحبون سوريا من خلالهم، بدلا من توظيف هذا الدعم لأنفسهم فيدينهم الناس ويُساء الى سوريا؟!«.
* * *
في اي حال فقد عاش اللبنانيون، مباشرة، ومعهم الكثير من العرب عبر الفضائيات، في ما يشبه الحلم يوم امس: بين الصورة العزيزة المشتهاة والمفتقدة لتداول السلطة، سلمياً وفي اطار ديموقراطي راق، وبين الكلمة العهد بالتغيير الذي يطلبه الناس ويحتاجونه، ولا يمكن ان تكون لهم دولة او يكون لهم وطن من غيره.
وبرغم ان خطاب اميل لحود قد بدأ ثورياً وانتهى واقعياً، فان مجرد تحديده لوجوه الخلل ومواقع الارتكاب والتجاوز، واسباب العلل والاعطال المشوهة بل واللاغية للنظام الديموقراطي البرلماني، والمغيبة الدولة ومؤسساتها، يعتبر خطوة اولى على طريق طويلة لا يمكنه ولا يجوز له ان يقطعها وحده.
ومؤكد ان الرئيس »المثل والمثال«، والذي يباشر اصلاح السلطة من رأسها، لن يكون وحده في معركة التغيير، وثمة في كل مكان، بما في ذلك المجلس النيابي والطبقة السياسية عموماً، كما في خارجها من يتطلع مثله الى دولة القانون والمؤسسات، ومن هو مستعد لتجاوز الخاص الى العام ليكون له وطن.
واذا كان العماد لحود قد اغفل الاشارة الى ما انجز في عهد الياس الهراوي، وهو كثير، حتى لو كان بعضه موضع طعن او مناقشة، فهو بداية وانتهاء قد جاء ليكمل الناموس لا لينقضه.
ولنأمل ان تكون الخطوة الاولى ثابتة ولها ما بعدها وصولا الى تنفيذ الخطاب العهد، بقوة المثل والمثال على راس السلطة التي تجيء من رحم سابقتها وليس من خارجها.

Exit mobile version