طلال سلمان

<جيف> بدل فبدلوا وصار مرفوض بطلا

ما بين طرفة عين وانتباهتها يمكن للطبقة السياسية، بمجملها، أن تبدّل في مواقفها، ومن ثم في مواقعها، دون أن تخشى في التبدّل والتبديل لومة لائم أو محاسبة حسيب، أو عقوبة معنوية يوقعها عليها ما يسمى في بلاد الناس الرأي العام .
ويزدهي اللبنانيون عموماً بأن يُقال عن وطنهم الصغير، منظوراً إليه من خلال يومياته السياسية وتحوّلات قياداته وزعاماته ومرجعياته الروحية، إنه بلد الأعاجيب والألاعيب والسراديب، وقد يضيف البعض و الأكاذيب ، وأن الظاهر فيه غير الباطن، وللباطن باطن وربما بواطن، والبواطن دول، والدول مصالح، وعند اختلاف الدول إحفظ رأسك مرة، أما عند اتفاقها فاحفظ رأسك مرتين!
تكفي مراجعة سريعة للمواقف، التي سرعان ما انسابت أنهاراً من التصريحات، أطلقها معظم القيادات، أقطاباً وأشباه أقطاب، في الأسابيع القليلة الماضية، لتكتشف خطورة الانقلابات في مواقفهم وبالتالي في درر كلامهم المرسل، إذاعياً وفضائياً، كما في بياناتهم المكتوبة من مسائل راهنة مثل: مبدأ تعديل الدستور، انتخاب الرئيس من خارج أكثرية الثلثين، ثم من احتمال وصول عسكري ، (وتحديداً قائد الجيش) إلى رئاسة الدولة، ومن دور المرجعيات الدينية في اللعبة السياسية، وصولاً إلى التدخل الأجنبي في الانتخابات الرئاسية.
لقد تورّط عدد من القادة بالأنساب أو بالاكتساب فأعلنوا رفضهم المطلق لمبدأ وصول عسكري إلى سدة الرئاسة. بعضهم أقسم بأغلظ الأيمان، وبعضهم أكد أنه سيقطع يده ولا يوقّع، وبعضهم قال إنه مستعد للقتال ضد هذا الاحتمال الذي سيعيد عهد الوصاية، حتى الرمق الأخير!
أما الأذكياء منهم فقد اعتمدوا على دول الديموقراطية بقيادة الإدارة الأميركية، وفيها أوروبا الغربية جميعاً… وتجاهلوا عمداً أن ثمة دولاً عربية، بعيدة وقريبة، قد تجنح إلى اختيار قائد الجيش رئيساً بمنطق أنه قادر على إعادة تجديد الوحدة الوطنية أو ضامن للسلم الأهلي ، إلخ.
مع الدول العربية يختفي، بالطبع، الحديث عن الديموقراطية، ليحل محله الكلام عن الحاجة إلى مساعداتها لإعادة الإعمار، أو لإقفال الباب أمام عودة الوصاية ، أو للإيحاء بانتهاء زمن المقاومة و التحرّش بإسرائيل التي لا أطماع لها في لبنان ولا تريد له إلا الخير والسلامة والحرية والديموقراطية، بعد نزع سلاح المقاومة وإقفال بوابته جلاّبة الريح!
سيئ الحظ مَن كان يحاول تذكير هؤلاء بأن الديموقراطية الأميركية هي التي دمّرت دولة العراق تمهيداً لاحتلالها، ثم دمّرت وحدة شعبه وأرضه، وجعلته مزقاً تتناهبه الطوائف والأعراق بحراسة جيشها وأسلحته المدمّرة.
… ثم دار دولاب الحظ، في الخارج طبعاً، وحدث التوافق بمثل السحر، ووصلت كلمة السر بالإيحاء أو بالإيماء، ولبعض الأذكياء بالتسمية المباشرة، فإذا الأقطاب يبلعون مواقفهم السابقة وتصريحاتهم ذات الرنين، بل وتهديداتهم، وكل خطبهم عن مجافاة الديموقراطية للعسكر، وعن الامتناع عن تكرار التجارب البائسة إلخ…
صار قائد الجيش، فجأة، في منزلة المخلّص والمنقذ من الكارثة، وبطل الوحدة الوطنية، والأمل الأخير لبقاء الدولة و…
ولا يتصل الأمر بجدارة قائد الجيش بهذه الصفات، فثمة ما يشبه الإجماع على وطنيته وإخلاصه وانضباطه، بل بأولئك الذين تورّطوا فجهروا وأعلنوا وقالوا وصرّحوا ولعنوا وتعهدوا بأن يمنعوا وقوع لبنان في التجربة، مرة ثالثة، بأي ثمن!
قد يكون لهؤلاء السادة النجب بعض العذر في أن الموجّه السياسي للديموقراطية قد عدّل موقفه فوافق على ما كان يعترض عليه، واكتشف أن التعديل الدستوري يختلف الآن عمّا كان عليه الأمر في العام 2004 (كيف؟!) وأمل ان ينظر النواب إلى التعديل بحرية ويأخذوا الدستور على محمل الجد؟! ، مؤكداً أن بلاده ستدعم الرئيس المنتخب من قبل غالبية (؟!) أعضاء المجلس النيابي الذين يتصرفون من دون ضغط خارجي !
لقد بدّل جيف ، وهو مركز الدائرة، فكيف لا يعدلون؟
[ [ [
يستحق قائد الجيش التهنئة على أنه قد جمع حول شخصه من كانوا، حتى الأمس القريب، لا يجتمعون.
ويستحق اللبنانيون من قائد الجيش اليوم الرئيس غداً أن يتذكّر أنهم قد حفظوا له مواقفه الوطنية الجامعة، في مواجهة إسرائيل بداية، كما في حماية ممارساتهم الديموقراطية (التظاهرات، الاعتصام، وهبّات الاحتجاج).
وحفظوا له، على وجه التحديد، أنه لم يستزلم، ولم يذل موقعه والمؤسسة التي تشرّفه بقيادتها، وأنه لم يخضع للضغوط الشديدة التي حاولت أن تسترهنه لبعض قوى الداخل، ضد بعضها الآخر أو لبعض قوى الخارج، ضد مصلحة لبنان وأشقائه العرب.
ومن هنا فهم قد أعطوه أصواتهم من قبل أن يطلبها.
ولعل السبب الأول في تأييدهم له أنه من خارج الطبقة السياسية ، وأنه يعرفها بما يكفي ليحمي موقعه غداً، من أغراضها وأمراضها…
أما الخارج فإن تجربته معه عريضة ومريرة بشهادة الحرب الإسرائيلية على لبنان قبل 18 شهراً، وحرب مخيم نهر البارد قبل ستة شهور إلا قليلاً.

Exit mobile version