طلال سلمان

بحث عن رئيس في جبة بطريرك

يستحق البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير هذه المكانة الاستثنائية التي رفعته إليها المداولات الدولية (والعربية ضمناً) من أجل تمرير انتخاب رئيس جديد للجمهورية، في لحظة سياسية شديدة التعقيد، وفي جو نفسي مأزوم يظلل الناس داخل خيمة خوفهم البلا حدود.
ليس البطريرك صفير، بشخصه ثم بموقعه، بديلاً من ضائع… فلقد استطاع دائماً ان يشكل مرجعية لبنانية، تتجاوز الاطار البحت طائفي الى مجال العمل العام. وهو لم يكن، على امتداد العقدين الماضيين، مرجعية اضطرارية فرضته ظروف غياب او تغييب القيادات المارونية المقاتلة ، بل كان في حضورها قوة فصل تحفظ للطائفة وجهها المدني وحرصها على لبنان الواحد وعلى نظامه الديموقراطي الذي يتحمل كل هذه الصراعات السياسية ذات الشعار الطائفي، داخل كل طائفة ثم في ما بين الطوائف عموماً.
بل يمكن القول بغير مبالغة إن القيادات السياسية المارونية التاريخية قد زكت بقصورها كما بأخطائها، الدور السياسي للبطريرك الماروني في معارك رئاسة الجمهورية، أقله خلال العقدين الماضيين. صار يمثل، في جانب منه، التعويض عن نقص في المعنويات، وفي جانب آخر السند او المرافعة للتمثيل الماروني في الرئاسة الاولى. فما زاد في دور البطريرك هو ما نقص في أدوار المرشحين للرئاسة، سواء منهم من وصل او من تلبث ينتظر.
ومع احتدام الازمة الاقتصادية، بنتائجها الاجتماعية القاسية، وفي غياب سياسيي الطائفة، لا سيما من هم في السلطة، عن معالجتها، صارت بكركي مرجعية شعبية ، تقصدها النقابات والجمعيات والروابط، فضلاً عن الأحزاب والشخصيات السياسية لتتخذ منها المنبر وقيادة التحرك بالضغط المعنوي على السلطة لتلبية الاحتياجات والمطالب العامة… او للبروز كبدائل عن الذين اعطوا الفرصة، خلسة، فلم ينجحوا!!
على ان البطريرك صفير، في هذه اللحظة، هو مرجعية المرجعيات. وهو قد تجاوز دوره المحلي الى النطاق الدولي وأجبرته الازمة السياسية للطائفة مع نهاية العهد الحالي، والاشتباك السياسي حول هوية العهد الجديد، بعنوانه الرئاسي، على ان يتحول الى مصدر الترشيح والتزكية.
لقد رفعه فشل الطبقة السياسية فوقها جميعاً، وجعله شخصية دولية يرقى إليها الموفدون والمبعوثون، وفيهم وزراء خطيرون، ومرشحون رئاسيون (في بلادهم) لكي يسمعوا منه ما يفيدهم في ايجاد المخارج من الازمة السياسية الخانقة…
وهكذا تلاقى اهل الداخل وأصحاب القرار في الخارج على اعتماد البطريرك صفير مرجعية لها من دون غيرها حق تسمية المرشحين لرئاسة الجمهورية، تاركة للوسطاء المحليين والدوليين (ومن ضمنهم العرب) ان يفاضلوا فيختاروا من بينهم رئيساً… مع اصراره، دائماً، على التحفظ وحفظ خط الرجعة ليمكنه من بعد ان يغسل يديه ويقول: انما فعلت اضطراراً ما كان واجب غيري، ولقد رشحت بضعة ممن افترض فيهم الاهلية، لغياب او اندثار او تحطيم الآليات الطبيعية، كالديموقراطية، وانتظام اللبنانيين (والموارنة على وجه الخصوص) في كتلتين سياسيتين تتناوبان على الحكم، مما يحفظ كرامة النظام البرلماني الديموقراطي، ويموه الواقع الطائفي باستخدامه ستاراً لتمرير المحاصصة الطائفية… بأصوات الناخبين!
وانه لحدث فريد في بابه ان تهبط حوامة القوات الدولية الآتية الى لبنان لتأمينه ضد حرب اسرائيلية جديدة، (او لتأمين اسرائيل من هجوم صاعق للمقاومة عليها، وهي اقوى دولة نووية في المنطقة وربما احدى الاقوى في العالم!!)… ان تهبط هذه الحوامة لينزل منها الامين العام للامم المتحدة، ليرقى درج البطريركية في بكركي، وليلتقي البطريرك (الذي مجد لبنان اعطي له) ليسمع منه مقترحاته حول امكان التوافق الوطني على رئيس جديد للجمهورية، يكون انتخابه باب النجاة من احتمالات الخطر المحدق بلبنان، شعبا وكيانا سياسيا بالرئاسات فيه وسائر مؤسسات دولته قيد التأسيس دائما.
وفي اي حال فإن الامين العام للامم المتحدة قد وجد نفسه مجبراً على ان يعطي المسألة اللبنانية بتفرعاتها الكثيرة، من وقته ومن جهده، ما لم يعطه لأية مشكلة دولية منذ تسلمه مهام منصبه الرفيع قبل شهور قليلة…
اي مجد للبنان، هذا الذي نعيشه الآن؟
لقد صارت طوائفه بصراعاتها الداخلية، وبالاحتمالات المفتوحة لتصادمها في الشارع، بالسلاح، الشغل الشاغل لدول العالم جميعا، بغربه وشرقه، بالدول الاعظم والعظمى والمتوسطة والصغرى وصولا الى قبرص المشطورة دولتين.
المظاهر كاريكاتورية، لكنها لا تحجب جدية البحث عن حلول للازمة المستعصية.
طبعا، توارت كل الادعاءات في الداخل والخارج عن النظام الديموقراطي، البرلماني وعن موجبات السيادة والاستقلال والعنفوان، وبات اللبنانيون متفرجين على التظاهرة الدولية التي تجوب شوارعهم بحثا عن رئيس، اي رئيس، يمكن التوافق عليه، ولو مؤقتا، في انتظار ان يحين موعد الحلول الفعلية التي تتجاوز لبنان، بالضرورة، الى محيطه الذي تتناهبه الازمات المصيرية، وبين عناوينها الملتهبة: العراق تحت الاحتلال الاميركي، وفلسطين تحت الاحتلال الاسرائيلي.
للمناسبة: لعل التفويض الاميركي للفرنسيين بتبريد الازمة المتفجرة في لبنان بالمساعدة على انتخاب رئيس، اي رئيس، قد تم بداعي تفرغ الادارة الاميركية لاقتياد الاطراف العربية جميعا الى مؤتمر انابوليس، حيث يشارك الجميع في ذبح الضحية، وينثر دمها من بعد على القبائل فلا يحاسب احد أحداً على تصفية القضية المركزية للامة العربية .
[ [ [
كان الشعار الذي اطلقه الاميركيون، عشية المعركة الرئاسية في العام 1988: المرشح الفلاني او الفوضى…
الشعار الاميركي المترجم الى الفرنسية (والعربية) الآن: اي مرشح حتى لا تكون فوضى…
ربما كان هذا الاستنتاج، في حال صحته، مصدر الأمل الصحيح في التغلب ولو مؤقتا على شبح الخوف الذي يجلبب البلاد جميعا، ويجعل الناس مبدئيا مستعدين للقبول بأي رئيس…
…بشرط ان يغطيه البطريرك، الذي مجد لبنان اعطي له، بجبته التي تحمل تراث القديسين، الذي تم تجميعه مؤخراً في وادي قنوبين…
..وبارك يا سيد!

Exit mobile version