طلال سلمان

بحثا عن عراق في عراق

لا عراق في العراق، اليوم. خمس سنوات من الاحتلال الأميركي الذي أورثه دهر الطغيان بلاد الرافدين كانت كافية لإنجاز المهمة الحضارية الجليلة: تدمير شامل لمهد التاريخ الإنساني ومسحه من ذاكرة القرن الحادي والعشرين! والمهمة تحمل أختام مجلس الأمن الدولي والتواقيع الملكية لحكّام الجوار، لا سيما الأشقاء منهم.
لا عراق في العراق، اليوم. وبالأمس وقف القادة المنتصرون لجيش الاحتلال أمام الكونغرس الأميركي يقدمون شهادات نجاحهم مكتوبة بدماء العراقيين، رجالاً ونساءً وصبية وأطفالاً وأجنّة، مدناً فيها وُلدت اللغة، وبلدات بعراقة الجنس البشري ذاته، وقرى ومضارب ودساكر تقوم شواهد على الإنجازات العلمية والثقافية التي صنعت الوجدان الإنساني…
قال القادة الأميركيون أمام حماة الديموقراطية في بلادهم إنهم على وشك إنجاز المهمة، لذا فهم يحتاجون مزيداً من الوقت لتدمير ما تبقى من جامعات ومعاهد ومدارس ومستشفيات، مكتبات وكتب ومخطوطات وحوزات علمية، مساجد وكنائس وخلايا اجتماعية وحسينيات ودور حضانة… فضلاً عن مؤسسات الدولة العتيقة، وتأمين الحماية لآبار النفط وحدها.
قدم القادة العسكريون للاحتلال باسم الديموقراطية كشفاً بالانتصارات التي حققوها: أكثر من مليون قتيل، وأكثر من ثلاثة ملايين مهجر هربوا من جحيم الاحتلال وما استولده من فتن إلى دول الجوار، سوريا والأردن أساساً، وإلى أي دولة قبلتهم لاجئين.
أثبت قادة الاحتلال أنهم يتقدمون سريعاً على طريق إنجاز المهمة: معدل القتلى اليومي أقل، ومعدل خسائرهم في الجنود والمرتزقة أقل، والشقاق في العراق بلا نهايات معروفة.
يُراد لنا أن نصدّق أن لا عراق في العراق اليوم. لا دولة بهذا الاسم ولا شعب في هذه الدولة المزعومة. هناك فقط أرض هباء مفتوحة. يُراد لنا أن نعتمد التصنيف الجديد لبلاد الرافدين التي ليس فيها إلا جيش الاحتلال الأميركي ومعه المرتزقة في الشركات الأمنية التي استقدمها و القاعدة ثم عملاء إيران ، وأن الحرب دائرة بين هؤلاء، ومن سوء حظ العراقيين أنهم وقعوا في مرمى النيران فصاروا ضحايا، مجرد ضحايا معظمهم مجهول الاسم والنسب.
لا دجلة في بغداد. بغداد جهات، والجهات جبهات، أخطرها المنطقة الخضراء ، لا كرخ في الكرخ ولا رصافة في الرصافة. لا أعظمية ولا كاظمية بل خطوط حرب. ومن حول بغداد أكداس الفقراء في المدن التي ليست مدناً بل مجاميع من الأكواخ على امتداد قناة الجيش. والأكداس متاريس تتخللها بوابات للعبور بين العين والعين والقلب والقلب.
لا دجلة في بغداد. لا فرات في كربلاء. ففي كربلاء التي تشطّرت طوائف نظمت مذابح عصرية أفظع بما لا يقاس من تلك التي غدت يوماً للحزن الإنساني النبيل، تقديراً للاستشهاد من أجل تثبيت الإيمان.
لا دجلة في بغداد. لا فرات في كربلاء. لا أهوار يصطنعها الفيضان. لا مشحوف يجري بأهل العرس إلى بيوتهم التي من نخل. لا نهر ينحدر من جلالا رابطاً بين أهل الضفتين. أما القرنة حيث كانت شجرة آدم فدليل على نهاية الخلق لا على بداياته.
لا عراقيين في العراق. هناك فقط عرب وكرد، تركمان وكلدان وأشوريون، صابئة ويزيديون.
لا عرب في العراق. هناك سنة وشيعة لم يجتمعوا لا في الماضي ولا في الحاضر، مع أن عشائرهم واحدة، ومصاهراتهم تناهز نصف أعدادهم، ولا أحد يعرف أين يقع الخط الفاصل بين المذهبين في الطفل العراقي الواحد.
لا بصرة في العراق. ها قد حقق الاحتلال مقولة بعد خراب البصرة .
لا موصل في العراق. الموصل مكمن لجماعة القاعدة لا بد من تدميره.
أما سامراء التي تدمرها الفتنة وتعيد بناءها الوحدة فعلى الطريق إليها آثار أقدام العاملين من أجل إدامة الاحتلال!
[ [ [
… بل إن العراق هو العراق، وشعبه ما زال فيه. كان يُقتل فحسب، ها هو الآن يقاتل مدركاً أن معركة تحرير بلاده طويلة ومكلفة.
العراق هو العراق. وشعبه يستعيد تدريجياً وحدته عبر مقاومة الاحتلال. وهو لا يريد مدداً ولا إسناداً ولا دعماً. إنه كفيل بإنجاز معركته، إذا ما توقف حكام أشقائه عن إذكاء نار الفتنة، مفترضين أنهم بذلك يشترون سلامتهم…
إنه لا يطلب غير الامتناع عن توشيح قادة الاحتلال بأرفع الأوسمة، ويا حبذا أيضاً لو كفّ حكّام أشقائه عن الاندفاع إلى حلبة الرقص ترحيباً بقتلتهم.
إنه يريد لحكّام جيرانه أن يهتموا ببلادهم حتى لا تتكرر فيها المأساة العراقية العظمى التي قد تكون نموذجاً لمستقبل شعوب هذه الأرض جميعاً.

Exit mobile version