طلال سلمان

باول كحامل انذارات اسرائيلية

جاء كولن باول إلى منطقتنا وزيرا للخارجية الأميركية، تحت ضغط الدم الفلسطيني المسفوك والذي غطى وجه العالم بصورة السفاح الإسرائيلي.
للوهلة الأولى، وحسب التصريحات التي مهّد بها لزيارته، بدا كولن باول وكأنه »الوجه الأبيض« الوحيد في إدارة سوداء السياسة، إسرائيلية الهوى والارتباطات، وأنه آت لإنقاذ إسرائيل من نفسها بمحاولة إخراج أرييل شارون من مستنقع الدم الفلسطيني الذي يكاد يغرق فيه ويغرق معه المنطقة…
بل بدا وكأن باول مكلّف بإخراج بلاده، بداية، من هذا المستنقع، ولو متأخراً، وإعادة تظهير المسافة الفاصلة بين واشنطن وتل أبيب، خصوصا وقد أُعطي شارون ما افترض أنه المهلة الكافية لاجتثاث روح المقاومة الفلسطينية بالمذابح الجماعية والتدمير المنهجي للمدن والقرى والمخيمات إذ لم يكن ما ارتكب من فظائع في مخيم جنين إلا »عيّنة« علنية لما ينتظر سائر التجمعات الفلسطينية، ولا سيما مخيمات اللجوء الثاني..
لكن هذه التقديرات سرعان ما تهاوت حين استبق جورج بوش وصول وزيره بتطويب شارون »رجل السلام« بينما العالم يتابع مذهولاً صور المذبحة المنظمة في مخيم جنين، والتي تتضمن دفن رجاله أحياء، ونسف منازله المتهالكة على أهلها فيها، وإعدام المقاومين وأياديهم مربوطة خلف ظهورهم وقد عُصبت عيونهم، فضلاً عن تهديم أحياء كاملة في نابلس وبعض طولكرم ومحاصرة السيد المسيح والذين لجأوا إليه في كنيسة مهده.
كان من السهل اتخاذ »عملية ناتانيا« الاستشهادية ذريعة لكي يخلع »الجنرال« ثياب الدبلوماسي وينتظم مع »الصقور« في إدارته، فيتحول من مشروع »وسيط«، ولو منحازاً، إلى حامل إنذارات باستسلام الفلسطينيين، شعباً وقيادة، وإلا…
والمؤكد أنه لم يكن خلال لقائه ياسر عرفات المحاصر في مكتبه في رام الله، إلا حامل إنذارات، ما هو سياسي أخطر مما هو عسكري فيها. لكأنه كان يعرض على الرئيس المنتخب ديموقراطياً لشعبه ما هو أسوأ من الاستسلام.
الشكل هنا لا ينفصل عن المضمون… فما معنى أن يذهب باول إلى عرفات بغير أن يطلب رفع الحصار عنه، وإخلاء الطريق وسحب الدبابات الإسرائيلية من قلب المبنى الذي يقع فيه مكتبه، إلا ممارسة أقصى درجات الضغط عليه لابتزازه تنازلات مهينة للنضال الفلسطيني ولموقعه في قيادة هذا الشعب الذي يفجر شبابه وصباياه أجسادهم التي لا يملكون سواها سلاحاً، لعلهم ينجحون في لفت نظر العالم، والولايات المتحدة بشكل خاص، إلى الجريمة الإسرائيلية التي تتهددهم في وجودهم.
واضح أن اللقاء لم يتضمن تعهداً بالانسحاب الإسرائيلي أو وعداً بوقف المذبحة، أو أي تلميح إلى استئناف المفاوضات، برغم أن عرفات كان قد لبّى الطلب الإنذار فأصدر بيان الإدانة، لعله يفتح به باب الكلام السياسي.
واضح أيضاً أن كولن باول، الجنرال مرة أخرى، قد تحول من ثم إلى حامل إنذارات من شارون إلى كل من لبنان وسوريا.. وهكذا عدّل برنامجه الذي لم يكن يتضمن مثل هاتين الزيارتين الخاطفتين اللتين قام بهما أمس إلى كل من بيروت ودمشق.
هل يكون من باب سوء الظن أو من سوء التقدير أو استباقاً للنتائج أن نفترض أن كولن باول يحاول إفهامنا، بأوضح لغة ممكنة، ان الولايات المتحدة الأميركية بإدارة جورج بوش تعتبر حرب أرييل شارون على فلسطين، بشعبها جميعاً وقيادتها التي لا يمكن اتهامها بالتطرف أو بالعداء للأميركيين، وكأنها »جولة« في حربها هي التي أعطتها عنواناً مضللاً هو »الحرب على الإرهاب« والتي لا تتعب من تذكيرنا بأنها ستشمل غداً أو بعد غد العراق وربما أقطاراً عربية أخرى.
بديهي والحالة هذه أن يحاول الجنرال الدبلوماسي الأميركي المكلف بمهمة إسرائيلية الضغط على لبنان بتوكيد الاتهام ل»حزب الله« بأنه »يهدد الاستقرار« ولا بد من لجمه، وتصويره وكأنه أساس المشكلة، وإلا…
وبديهي أن يحاول الدبلوماسي الجنرال في سوريا صرف الأنظار عما جرى ويجري فعلاً في فلسطين بطرح فكرة غامضة جداً عن »مؤتمر دولي« مهمته الفعلية تحرير إسرائيل شارون وأميركا جورج بوش من كل القرارات الدولية والاتفاقات التي تؤكد حقوق الفلسطينيين في أرضهم، فضلاً عن الوعود والرؤى الغامضة عن »دولتهم« العتيدة مجهولة الحدود، منزوعة السلاح، بلا سيادة، مجهَّلة العاصمة، ممزقة الشعب في جزر كل منها محاصرة بالمستعمرات الإسرائيلية المسلحة والطرق الالتفافية ونقاط التفتيش عن حلم الوطن في صدر كل فلسطيني.
بديهي والحالة هذه أن يكون رد لبنان التوكيد على موقفه الثابت والمعروف من أن »حزب الله« يواصل عمله المقاوم طالما استمر الاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا، وأن لبنان ليس بصدد فتح جبهة جديدة، ولكنه متمسك بحقه في أرضه التي ما تزال محتلة،
بديهي أيضاً أن يجيء الرد السوري على المهمة الإسرائيلية للوزير الأميركي حازماً برفض البحث بأي مؤتمر دولي جديد قبل إنجاز الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية، كضمان أولي لحياة الفلسطينيين وكشرط بديهي للاعتراف بهم كطرف ولتمكينهم من أن يقرروا بإرادتهم لا أن تفرض عليهم تصفية قضيتهم بقوة السلاح الإسرائيلي والضغط الأميركي المباشر.
فأي معنى للحديث عن »السلام« بينما الشعب الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال، تتابع الطائرات والدبابات تهديم بيوته ومنشآته ومخيماته، تعمل تقتيلاً في رجاله ونسائه وأطفاله والشيوخ، تحاصر قيادته في وضع مذل إنسانياً (قبل السياسة)، وتطارد مناضليه ورجال مقاومته البواسل وتعدمهم في الساحات، أو تسوقهم إلى معتقلات جماعية، تحت التهديد بالقتل.
وكان لافتاً وبالغ الدلالات أن تسرّب إسرائيل خبر اعتقال القائد الميداني الفلسطيني الشجاع مروان البرغوثي، بينما كولن باول يجتمع إلى الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق.
لكأن شارون »يوضح« دلالات الرسالة التي يحملها باول، ويضفي عليه صفة »موفده الخاص«.
كذلك كان لافتاً أن يعلن شارون، وبالتوقيت نفسه، أنه لا ينبغي لياسر عرفات أن يتولى قيادة الشعب الفلسطيني، وأن هناك آخرين يمكن أن يحلوا محله، وأن السلام معه غير ممكن!!
في ضوء هذا كله كان طبيعياً أن يفشل الجنرال الأميركي في مهمته الإسرائيلية، في دمشق، وأن يكون الرد السوري محدداً وقاطعاً في رفضه الانتقال إلى التفاصيل قبل البتّ بعنوان البحث وهو الانسحاب الإسرائيلي من الأرض الفلسطينية.
مثل هذا الرد يأتي منسجماً مع الموقف السوري الثابت والواضح، ولو أن كولن باول سمع مثل هذا المنطق في محطاته العربية الأولى لاختلفت طبيعة مهمته، ولما كان وصل في استهانته بالعرب إلى حد التحول إلى حامل إنذارات إسرائيلية برتبة جنرال أميركي.

Exit mobile version