طلال سلمان

بالسر.. كنا نقرأها

من كنوز الفتوة انني افتتنت بقلم طلال سلمان باكراً… قرأته حتى في بداياته، وأنا تلميذ بعد على مقاعد الكلية الشرقية في زحلة.. التي خرجت في دنيا الأدب وعلم البلاغة، شعراء وأدباء..
شدني أسلوبه لما فيه من أناقة، ورشاقة، ولباقة. جذبني سبكه المشدود، واستقامة حرفته الموشاة بروح شاعرية، وما فيها من شجو وشدو.
وكنت كلما توغلت في كتاباته أشعر اني على أرض انفعال، وتوتر.. ولا يمكن لأي قارئ ذواقة، تغويه حرفة الكتابة، ان يمر بها، أو يبقى محايداً.. تشده ليصبح طرفاً في اللعبة..
كان ذلك في منتصف الستينيات، وكانت ثورة الطلاب في عزها، وكان تشي غيفارا أمير الأحلام، وكان طلال سلمان يدغدغ مشاعرنا في اقتحاميته.. يكتب بالقلم المحب، الحر، الثائر، والمقاوم بامتياز، بقلم يذهب إلى الشعب مباشرة، ويشاركه خبزه، وفرحه، وحزنه، وحبه وأغانيه.. وحلم التغيير والكفاح ضد الفقر والظلم والفساد..
يومها، و«كمراسل غُر»، كنت أظن، مع حفنة من الرفاق، أن الكتابة ستمنحنا ان نغير وجه العالم.. وأن حامل القلم هو رافع راية وقائد مغامرة!
(…) ودارت الأيام.. وكان العام 1974 وشهدت الصحافة اللبنانية والعربية ولادة جريدة فاتنة وفتية، هي «السفير» قبل انفجار الحرب المجنونة في لبنان بعام واحد فإذا بطلال سلمان إياه ـ الذي أحببت قلمه ـ هو رئيس التحرير، وقائد التجربة، ورحت أبحث عنه أكثر فعرفت كيف ان «فتى شمسطار» جبه مباهج الدنيا على غير اكتراث، واكتفى بالشظف. شاقه غبار الميادين فشهر هوية المجاهد بالكلمة، وحمل روحه على كفه، ووقف في ساح النضال.. كأنه ولد منذوراً للكلمة في سبيل الحرية.
أود ان اعترف، بحزن كبير، وألم كبير، وضحكة كبيرة، كيف كنت ارتكب قراءة «السفير» في زحلة، خلسة.. فعروس البقاع تعتبر بين أكثر المدن اللبنانية صرامة في «لبنانيتها» وتشدداً في «خصوصيتها» وتتغاوى بذاتها «كأول جمهورية في هذا الشرق» وهي التي «تعتبر لبنان جزءاً منها». لزحلة أن ترضى، في زمن متوتر، ومكفهر، عشية الحرب اللبنانية المجنونة، بجريدة ترفع شعار «جريدة لبنان في الوطن العربي.. وجريدة الوطن العربي في لبنان» بينما الأولوية القاطعة لكيانية لبنانية فوق كل اعتبار.. وكل ما عدا ذلك نوع من إشراك. ومع هذا كان الإقدام.
لهذا كنا نخشى قراءة «السفير» لئلا نضبط بالجرم المشهود ونتهم من المتزمتين بأن المدينة تتعرض لهجوم من نوع آخر، لهجوم على عقلها وفكرها وروحها.
فزحلة مدينة قانعة بنشيدها، وبتاريخها، قانعة ببراءتها وعذريتها، قانعة بمزاراتها وأوليائها ومقاهيها وكرومها وخماراتها، قانعة بمنابرها وخطبائها، وشعرها وشعرائها.. فكيف لشقي مثلي يستورد لها هذا التفكير «المغاير»، وأحياناً «المناقض» وتسمح له بمثل هذا الترف الفكري؟ لذلك كنا نرتكب قراءة «السفير» بسرية، وعبر علاقة حميمة، ونحن نعرف جيداً أن زحلة كانت كافية ومكتفية لا تقبل البدع ولا تهضم حتى المبدعين.. وكان لي الله.
أبوح لكم: إن إلحاحي على متابعة «السفير» وتعلقي بها يعودان لسببين هما:
الأول: انها ولدت فتية ثابتة على أرض صلبة وكان لرصدها بدقة، كتجربة نادرة في الصحافة اليومية اللبنانية والعربية، من باب الشغف الإعلامي..، وقد أطلت متغاوية، وبأسلوب جديد، وتأثير مباشر عند قرائها ولدى متتبعي حرفة الصحافة وقد ضمت في صفوفها، يومذاك الرعيل الإبداعي الأول لمعاناً، وثباتاً، وذكاءً، وتجديداً.
والثاني: هو إصرار مني على متابعة صاحب القلم الساحر والساخر، في عز توثبه. وفيه تلك «اللمعة الأدبية». أقولها من دون احتياط، وبمنتهى القناعة.
كل هذا الثراء الروحي واللغوي لا يتوفر إلا لأديب مبدع، وصاحب قلم ممتع ممرع، اثبت فيه سلمان أن الصحافة هي مهنة إبداع في الدرجة الأولى وتعتمد على الخلق.
ويكفي ان نقرأ هذا التمرد مع طلال، وحتى على نفسه، حين يصل في احد «هوامشه» إلى نوع من مرثاة يقول فيها: «… وشتان ما بين بداية الرحلة مع النهوض القومي العظيم، بالثورة والوحدة، وأحلام التحرر، واللحاق بالعصر، وما بين تعاسة السقوط دون أهدافنا والارتهان للخارج في غدنا».

أنطوان أبو رحل

السفير، 1242014

Exit mobile version