طلال سلمان

بابا ولبنان في قاهرة

بديهي أن يبدأ البابا يوحنا بولس الثاني زيارته التاريخية لأكبر دولة عربية بإلقاء التحية العربية (السلام عليكم) على مستقبليه في مطارها الذي يحمل شعارها ذا الرنين الإسلامي: ادخلوا مصر آمنين..
ولكنها مصادفة أدت غرض القصد أن يستهل قداسته حديثه الى المصريين، وعبرهم إلى عموم العرب، بمن فيهم المسيحيون منهم، وعموم المسلمين بالقول: »ان صنع الشر والترويج للعنف والمواجهات باسم الدين يشكل تناقضا رهيبا وإهانة كبرى لله«… فدلالات الكلام تتخطى تلك الزمر التي يعميها التعصب ويفيد منها الأجنبي (ولعله يستخدمها) وهي تأكل من لحم مصر (والجزائر) لتصيب من يمارس »إرهاب الدولة« متباهيا بولعه بدم الأطفال كمسخ السفاح المتنكر بثياب رئيس الدبلوماسية الإسرائيلية ديفيد ليفي.
وبديهي أن تتضمن الكلمة الترحيبية للرئيس المصري محمد حسني مبارك ما معناه: »يجب أن نعمل سوياً لمواجهة التعصب والأحكام المسبقة والبغض«، وخصوصا أنه عائد لتوه من لبنان حيث شهد بأم العين بعض مآثر التعصب والبغض كاغتيال الكهرباء وفرض جو من الارهاب المفتوح على اللبنانيين عموما، بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم والرجال، عبر التهديد بمزيد من التدمير للبنية التحتية وبالتالي لأسباب الحياة، إذا ما استمرت المقاومة ضد جنود الاحتلال داخل الأرض اللبنانية المحتلة.
كل ذلك قبل أن يلبس ديفيد ليفي بزة الجنرال ويستعير المنطق النازي وإن بعبارات توراتية ليعيد التأكيد على تهديده بحرق لبنان وقتل أطفاله وإغراقه في الدم.
.. وقبل أن يتبنى رئيسه إيهود باراك مضمون هذه التصريحات وإن لطَّف من لهجتها، وزاد من الكاريكاتور الأسود فيها حين وصف ديفيد ليفي بأنه »الصوت المعتدل« و»المعبّر عن إرادة شعب مصمم على الدفاع عن نفسه في محيط صعب وفي مواجهة جميع أشكال التهديدات«!!
لكأنما لبنان هو الذي دمَّر ويدمِّر البنية التحتية في إسرائيل، ويقصف الأطفال في مدارسهم، ويحرق بيوت الفلاحين في قراهم، أو كأنما مجاهدو المقاومة قد تصيّدوا بعض السياح في تل أبيب وهم نيام.
… وقبل أن تتوالى تصريحات »المعتدلين« الآخرين في إسرائيل وكلها يتبنى منطق هذا الوزير الذي كان »ليكودياً معتدلاً« في عهد نتنياهو وتحول الى »ليكودي متطرف« في عهد باراك، كما يصفه أقرانه.
… وقبل أن يطلق رئيس الحكومة الفرنسية ليونيل جوسبان، في اليوم الثاني من زيارته لإسرائيل تصريحاً يزايد فيه على مادلين أولبرايت التي وصفت المقاومة في لبنان ممثلة في »حزب الله« بأنها »عدو السلام« في المنطقة، فيقول خلال مؤتمر صحافي في القدس المحتلة بأن بلاده »تدين هجمات »حزب الله«، وفي كل الأحوال جميع الهجمات الإرهابية التي تستهدف جنودا أو سكانا مدنيين إسرائيليين«!
لقد بزّ جوسبان بأقواله الخرقاء هذه كل القواعد التي أعادت لفرنسا شيئا من اعتبارها في المنطقة، والتي جعلت اللبنانيين والسوريين يقاتلون من أجل تثبيت »دور مساعد« لها إلى جانب »الوكيل الأوحد« لعملية التسوية في المنطقة، عبر الإصرار على وجودها طرفاً في »تفاهم نيسان« الذي يفترض أن الدبلوماسية الفرنسية تسعى جاهدة للحفاظ عليه من الغارات الإسرائيلية المفتوحة المغطاة بشيء من الدعم الأميركي!
فلم يحدث، عبر التاريخ وليس فقط الصراع العربي الإسرائيلي، ان سمح عاقل لنفسه بإدانة المقاومة ضد جنود الاحتلال، وكلام هذا »الاشتراكي على الطرز الأميركي« والمعروف بتعاطفه الشديد مع إسرائيل، والذي لا يخفي إعجابه الفائق بإيهود باراك، يشكل خروجا على تقاليد فرنسا نفسها التي احتُلَّت أرضها أكثر من مرة وقاوم شعبها أو بعضه الاحتلال فقتل جنوده حيثما تمكّن من اصطيادهم!
في أي حال فإن من حق الرئيس حسني مبارك أن يرحب بالبابا يوحنا بولس الثاني باسم كل العرب، لأن زيارته لمصر تكاد تكون زيارة للعرب في كل أرضهم، ثم انها تتجاوز بنتائجها الإطار السياسي، إذ ان وجود قداسته في »قاهرة الأزهر« يؤكد مدى الرحابة الدينية التي عاشتها هذه المنطقة عبر التاريخ، والتي ما زالت تحت فيئها بمعزل عن بعض المشاغبات والاعتداءات ذات الطابع الطائفي والناجمة عن تعصب أعمى يتوجه برصاصه إلى المسلمين قبل المسيحيين، والتي تشكل خروجا على ما ألفته المنطقة وما رسخ في تقاليد بل في أسس أو مرتكزات حياتها العامة.
وفي ما خصنا في لبنان فلعل البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير، الذي انضم إلى البابا في زيارته التاريخية لمصر، سيعود من القاهرة أكثر اقتناعا بأن التطرف قد جاء إلى المنطقة من خارجها، وأن التعصب وهو الابن الشرعي للتطرف وللاستعلاء العنصري (أو الديني لا فرق) قد وُلد من صلب التطرف المستورد… وها هي الاعتداءات الإسرائيلية، عبر نصف قرن أو يزيد، إضافة إلى سلوك الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، حتى من قبل أن يعهد باراك بوزارة خارجيته إلى هذا الأحمق والجاهل ديفيد ليفي، تشهد على مرتكبيها، وتظهر الأبناء الأصليين لهذه الأرض الطيبة ضحايا لا جلادين، ومتسامحين بأكثر مما يجب (في بعض الحالات)، ربما لأنهم يتكئون على تراث عميق من الإيمان الذي يدفع إلى التديّن وينبذ التعصب..
فالدين، هنا، ارتبط على الدوام بالأرض وناسها الذين قبلوا الرسالات السماوية الثلاث وتوزعوا عليها، وتقلّبوا داخلها وتنقّلوا في ما بينها وكأنها »بيت بمنازل كثيرة«.
لكن التطرف جاءنا من الدين بعدما تغرّب وتسيّس حتى لقد غدا الدين أحياناً مجرد ذريعة للاستعمار والاستيطان الأجنبي، ويكفي بإسرائيل شاهداً وبعنصريتها المحصنة بالخرافة التوراتية نموذجاً ومثالاً… هذا إذا ما تناسينا الاستعمار الاستيطاني الفرنسي لجزائر ما قبل الثورة!

Exit mobile version