طلال سلمان

بابا حاج وسوريا قضية

بديهي أن تتميز زيارة البابا إلى سوريا بأبعاد سياسية استثنائية إضافة إلى دلالاتها الدينية الرمزية، وهي عميقة وعديدة جدا وبينها ما هو فريد في بابه وغير قابل للتكرار كمثل دخول المسجد الأموي لإلقاء التحية على القديس يوحنا المعمدان (الذي يسميه المسلمون النبي يحيى) المدفون في جانب منه، وسط حشد من العلماء والشيوخ يتقدمهم المفتي المجرّب والمحاور العريق.
فهذا »الحاج« ذو المكانة الدولية الرفيعة والذي تتقاطع في شخصه الرموز الدينية والأبعاد السياسية لموقعه الممتاز ولدلالات تحركه، يمكن احتسابه بين أبرز المؤثرين على السياسات الدولية في العقد الأخير من القرن العشرين.
وبديهي أن تتعامل معه القيادة السورية بالاحترام الواجب لموقعه الديني الممتاز، وكذلك بالوعي الكامل لخطورة موقعه »السياسي« وتأثيراته غير المحدودة: فهو في العديد من الأحداث الدولية كان »الملهم«، وفي بعضها الآخر كان »الموجِّه«، ولعله في حالات محددة اقترب من أن يكون في موقع »القائد«.
كذلك فمن البديهي أن تتحدث إليه سوريا وفي ذهنها خطورة اجتهاد الكنيسة، وهو على رأسها، في تفسير التاريخ، وتحديد مواقع الخطأ وأشخاص الخاطئين، ومتى تقبل التوبة ومتى يصح غفران الخطايا ولمن يتوجب الاعتذار وطلب الصفح من »الضحايا«، وأين ومتى..
ولعل الجو الودي الذي أحاط بالزيارة البابوية من المطار إلى المطار، والذي قد يكون من أسبابه هذا اللقاء الاستثنائي »بين الأكبر سناً بين الرؤساء وبين الأفتى والأكثر شباباً«، كما قال البابا يوحنا بولس الثاني للرئيس الدكتور بشار الأسد، قد شجع على المزيد من المصارحة ومن طرح المواقف بصورتها الأصلية، وبلا لبس أو إبهام.
قدَّمت سوريا نفسها بهويتها الأصلية وكأنها »دار العرب« جميعاً المعبّر عن وجدانهم والناطق باسم قضيتهم الأساسية، فلسطين، مركز الصراع العربي الإسرائيلي، من غير أن تغفل موقعها المميّز في التاريخ الإسلامي والذي يكاد يلخص المسجد الأموي بعض فصوله المحورية.
وبمعنى ما، فلقد كانت أول زيارة »عربية« للبابا، برغم أنه زار بلدانا عربية عدة قبل سوريا، وهي قد شهدت أول تماس حواري مباشر مع »المسلمين«، برغم أنه التقى من قبل العديد من الرؤساء المسلمين والهيئات والمؤسسات الإسلامية بينها الجامع الأزهر في قاهرة المعز… لكن المسجد الأموي الذي يحمل عبق أبي عبيدة ابن الجراح وخالد بن الوليد، والذي يرقد صلاح الدين الأيوبي عند مدخله، أمر مختلف.
ولأنها أول زيارة »عربية« فقد كان طبيعيا أن تحفل بالرموز وتتكثف فيها الدلالات، وأن تبرز من خلالها قضايا العرب وهمومهم الثقيلة، وأن يحتل العدوان الإسرائيلي المفتوح مركز الثقل في مختلف وقائعها ومحطاتها، خصوصا وأن البابا يوحنا بولس الثاني كاد يسمع دوي المدافع الإسرائيلية وهي تدك البيوت في بعض أنحاء فلسطين، قبل أن تواكبه وهو يدخل كنيسة القنيطرة صورة »إيمان« الطفلة الرضيع التي قتلها جنود الاحتلال بقذيفة مباشرة وهي لما تكمل شهرها الرابع.
»أسافر ودمشق في قلبي.. فدمشق مدينة سلام، وأتمنى لأهلها السلام… وبتوجهك وبالروح التي عندك سيعيش المسلمون والمسيحيون في سلام تجمعهم محبة الوطن«.
بهذه الكلمات ودع البابا يوحنا بولس الثاني الرئيس الأسد وشعب سوريا الذي أحاطه بحفاوة مميزة… وكان الوداع واضح »العاطفية«، وغاب عنه أي أثر للاعتراض أو للتحفظ على ما سمعه من مضيفه سواء في المطار، عند الوصول، أم عند المغادرة وقد بات النص قاطعا في وضوحه بأنه إنما قصد استيحاء الدروس من عبر التاريخ ومن واقعه أكثر مما أراد التعريض باليهود كيهود.
على أن المتضررين من نجاح الزيارة بدلالاتها المكثفة، وفي الطليعة منهم إسرائيل، كان لا بد أن يجهدوا لمحاولة تشويه النتائج الطيبة، والتي لا بد أن تعكس نفسها على السياسات، فكانت الحملة الشرسة على الرئيس السوري أقرب إلى الرد الإسرائيلي المحنق منها إلى الرغبة في تصحيح الوقائع التاريخية أو دلالاتها السياسية المباشرة… لا سيما وأن الأميركيين لم يشتهروا بالتعمق في دراسة التاريخ.
وبديهي أن تنزعج إسرائيل من أية إشارة إلى العذاب الذي لقيه السيد المسيح، حتى لو لم يذكر مَن عذَّبوه بالإسم..
ولعلها قد انزعجت أكثر من زيارة البابا إلى كنيسة القنيطرة والمقدسات العديدة وذات القيمة التاريخية الاستثنائية، في مختلف أنحاء دمشق، بما تفرضه من مقارنة مع أوضاع المقدسات الأسيرة (المسيحية والإسلامية) في القدس وسائر أنحاء فلسطين التي سبق للبابا أن زارها مكبلاً بالقيود »البروتوكولية« الإسرائيلية.
وأكيد أن انزعاجها تحول إلى ما يشبه الغضب عندما أشار البابا إلى أصغر الشهداء في الدنيا: الرضيع ذات الأربعة شهور، إيمان حجو الفلسطينية.
على أن النتائج الطيبة لزيارة البابا تتجاوز الحملة الأميركية التي بلغت ذروتها بكتابات حاقدة تسحب ما في الصهيونية من عداء للآخرين، على العرب عموما والسوريين ورئيسهم بشكل خاص.
فلقد جاء البابا حاملاً مبادئ الحق، ولكنه اكتشف عبر مشاهداته والأحاديث التي سمعها، الحق العربي، فاقترب منه أكثر…
كذلك فهو قد أعطى دمشق موقعا ممتازا في مسيرة الدعوة لتحقيق وحدة الكنيسة، وعبر حجه متبعاً طريق »بولس الرسول«،
ولقد حفظ له المسلمون امتناعه عن رسم إشارة الصليب أمام ضريح القديس يوحنا المعمدان، احتراماً منه لطبيعة الموقع داخل المسجد الأموي.
تبقى ملاحظة لبنانية على الهامش مفادها: أن لبنان خسر فرصة ممتازة لتوكيد دوره في منطقته بخصوصياته المميزة، لا سيما في مجال العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في إطار الهوية الوطنية والقومية الواحدة… ولقد يعزي اللبنانيين ولكن لا يكفيهم أن سوريا قد حاولت فنجحت في تعويض هذا الغياب.

Exit mobile version