طلال سلمان

بؤس السياسة والأوهام الإنقلابية في لبنان

في لبنان الراهن إتجاهان سياسيان لمعالجة الأوضاع.  أحدهما ثوري إنقلابي، والثاني إصلاحي تراكمي. الأول يلغي السياسة والثاني يأخذ بها. وقد تعودنا أن نرى الثورة خير والإصلاح شر.

الإتجاه الثوري على العموم يعارض إتفاق الطائف، في السر أو في العلن. وهو ينقسم بدوره إلى إتجاهين:
الإتجاه الثوري الفيدرالي الذي يرى أن لبنان متعدد الطوائف والحفاظ على لبنان يقتضي أن يكون لكل طائفة حكم ذاتي. فهي تختار ممثليها في مجلسي النواب والوزراء، وتكون الإدارة البيروقراطية مستقلة، والإدارة المركزية معنية بالسياسة الخارجية والدفاع، وبعض الأمور الأخرى الأقل أهمية. لا يأخذ بالإعتبار هذا الإتجاه أن الطوائف متداخلة، وليس هناك منطقة ذات طائفة واحدة. ومن الممكن أن تتوزّع المنطقة الإدارية (الطائفية) الواحدة على عدة رقعات، تفصل بينها مساحات لطوائف أخرى.

يفترض هذا الإتجاه وحدة كل طائفة، ويلغي التعددية، ويحقق لكل فرد “مواطنية” في الطائفة لا في الدولة؛ ويتجاهل كون كل واحد منا ومن الناس في كل بقاع الأرض متعدد الهويات. الهوية عندهم دينية وحسب. المضمر عندهم هو أن الإنسان ذو بعد واحد تقرره الهوية الثقافية؛ وهذه بدورها ذات بعد واحد هو الديني أو الطائفي.
يرون لكل طائفة تاريخها وثقافتها. ينظرون إلى المختلف ولا يرون المؤتلف. يتجاهلون أن لكل قرية تاريخها المندرج في تاريخ المنطقة الأوسع والمساهم في تاريخ العالم. والثقافة أيضاً؛ لكل قرية ومنطقة ما هو مؤتلف مع الغير ومختلف عنه. يرون كل إختلاف يجر إلى خلاف. وكل خلاف مصدر نزاع. يريدون وعياً يصعب معه تحمّل الآخر. المغاير مستبعد والمختلف مستقصى. وعي قائم على الإستثناء والإستبعاد.

في الإتجاه الثوري الثاني، يريدون قطعاً مع التاريخ. يريدون عقداً إجتماعياً جديداً؛ وهذا يصدر عن مؤتمر تأسيسي. لا ندري ممن سيتألف المؤتمر التأسيسي. ولا من سينتقي أعضاء هذا المؤتمر ويحضّر له. أصحاب هذا الإتجاه يرون أن المؤتمر التأسيسي يعيد تشكيل الدولة. العكس هو الصحيح. الدولة تُنشئ مؤتمراً تأسيسياً. وما دام هناك برلمان، ما الحاجة إلى مؤتمر تأسيسي مؤلّف من أعضاء من خارج المجلس النيابي؟ ما هي قواعد العمل في المؤتمر التأسيسي ومن سوف يضعها؟ وهل سيكون البرنامج المطروح أمام المؤتمر التأسيسي سوى برنامج لفئة من الناس يفرضون آراءهم على الآخرين؟ البرلمان يأتي حصيلة إنتخابات ديمقراطية، على علاتها، لكن يساهم فيها كل الناس تقريباً، أو بشكل جزئي. لكن الفرصة متاحة أمام الجميع. المؤتمر التأسيسي نخبوي جداً. نخبة تختار نخبة لتقرير مصير البلاد. إذا كان أصحاب هذا الإتجاه سيأتون بأناس جدد، فمن أين سيأتون بهم؟ وهل المؤتمرات التأسيسية في بلدان أخرى إلا وكانت معظم الذين تضمهم البرلمانات مع بعض الإضافات؟ وهل ستكون الجمعية التأسيسية سوى برلمان غير منتخب؟ وهل سوف تتشكل من غير الوجهاء الذين لم ينجحوا في إنتخابات نيابية أو لم يجرأوا على الترشّح خوفاً من السقوط؟

كل من الإتجاهين الثوريين إنقلابي في الحقيقة. يريدان تغيير النظام من أساسه، وفرض هذا التغيير على الناس. لا يعتبر أي منهما أن الحياة الديمقراطية تتطوّر بالتراكم، والتراكم يحدث بالسياسة. هما يلغيان السياسة في تأسيس الدولة. لم ينته نظام إنقلابي في أي من دول العالم إلا إلى نظام للاستبداد. وما من سلطة استبداد رحلت أو سقطت إلا عن طريق إنقلاب آخر.

الإتجاه الإصلاحي تراكمي، يعتبر أن لدينا دولة ونظاماً، وفيهما الكثير من الفساد. لكن يمكن البناء على ما سبق بالسياسة. تدوير الزوايا، والتسوية، والمناورة. كل ذلك جزء من السياسة. عصفور باليد ولا عشرة برأس الشجرة، كما يقول المثل الشعبي. يمكن البناء على ما سبق ولا حاجة للعودة إلى نقطة الصفر دائماً، أو كلما اهتزت التوازنات في البلد. في كل بلاد العالم، خاصة أوروبا الغربية والولايات المتحدة، حيث الديمقراطية متجذرة، نشأت الدولة بالغلبة. في إطارها اضطر الناس إلى العيش المشترك، وفي إطارها نشأ العقد الإجتماعي. لم ينشأ العقد الإجتماعي لأن جماعة من الناس نصبت نفسها للمهمة. لم ينشأ عقد إجتماعي إلا في إطار الدولة. في معظم الأحيان، بل في كلها، بالغلبة. هي كيان اصطناعي لأن البشر ينشئونه. الإستبداد منشأ الدولة، وقد صار التطوّر الديمقراطي في إطار الدولة بالنضال ضد الطبقة الحاكمة من أجل الحقوق والحريات. إن إرادة العيش المشترك هي في الدولة بعد أن تنشأ.

الكيان اللبناني الذي نشأ عام 1920، لم ينشأ نتيجة إرادة اللبنانيين أو الذين سيصيرون لبنانيين، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، بل نشأ نتيجة إرادة المستعمر الفرنسي. قبِلَهُ اللبنانيون وذلك استجابة لبعض النخب اللبنانية. مع مرور السنوات تعوّد اللبنانيون على القبول بما فرضته عليهم الغلبة. لم يكن إتفاق الطائف للخروج من الحرب الأهلية، بل إكتمالاً لتطوّر الكيان اللبناني وإرادة العيش المشترك. جاءت صورة 17 تشرين الأول 2019 لتسبغ هوية على هذا الكيان؛ هوية جامعة لبنانية عبّرت عن جميع اللبنانيين إرادياً. هوية جامعة فوق الهويات الطائفية. شارك في الثورة من لم يكن يحلم سابقاً أنه يمكن أن يرفع العلم اللبناني. هذا ما أقلق الطبقة الحاكمة التي تعودت على الإنقسامات الطائفية؛ مثل قراد الخيل التي لا تعرف العيش إلا بما وحيث يليق بها.

الثورة الحقيقية حدث تسببه النخب السياسية والثقافية. هي إنفجار أشبه بالزلزال. تعبير عن غضب الناس على السلطة القائمة. ومن واجب كل ذي حس إنساني أخلاقي وسياسي بالمعنى الإجتماعي أن يؤيدها ويشارك فيها. الثورة لحظة في التطوّر التاريخي. ليس لها برنامج لأنها ثورة غضب جماهيرية سرعان ما تنتهي بعد أيام. لا تنطبق عليها مقاييس النجاح والفشل، لأنها حدث أو واقعية. النجاح والفشل يكون لما بعد الثورة. إذاً بعدها يأتي الإصلاح. النخب اللبنانية لم تتعظ من الثورة ولم تتعلم منها الدروس التي كان واجباً أن تتعلمها. في العديد من البلدان بقيت الملكية رمز الإستبداد سابقا وتحوّل النظام إلى الديمقراطية نتيجة نضالات وثورات الجماهير.

في البلدان العربية ردت النخب الحاكمة على ثورة 2011 بالثورة المضادة. وفي لبنان ترد الطغمة الحاكمة بما هو أسوأ من ثورة مضادة. ما نعيشه الآن هو ثورة مضادة زائد إفقار وتجويع وتهميش وسلب ونهب بما ليس له سابقة في تاريخ لبنان والعالم. بعد الثورة أمعنت النخب الحاكمة في غيها ولؤمها وسفالة فكرها وتفكيرها. لم تأت الثورة المضادة بالإصلاح. وهي لا تملك الكفاءة لذلك، بل جاءت بالتجويع والإفقار كي يحدث تدجين اللبنانيين وكسر إرادتهم وتفريع روحهم ونهب أموالهم. وهل يحدث التدجين إلا بهذه الشروط؟
تحويل الثورة لإنقلاب هو ما يحاول فعله “ثوار” الفيدرالية وإعادة التأسيس (الجمعية التأسيسية).

لدينا دولة، فلماذا إنكارها؟ ولماذا رفض تطورها السابق؟ ولماذا رفض تطويرها بمراكمة الإصلاحات وإضافتها على ما سبق؟ لماذا العودة دائما إلى نقطة الصفر؟ وهل في ذلك إلا إنكار وتدمير للبنان الذي تأسس عام 1920؟ في اللحظة التي وصل لبنان عام 2019 إلى نجاح التجربة، تجربة الكيان (الدولة) اللبناني وإرادة العيش المشترك والهوية الجامعة، يلجأ ثوار الفيدرالية والجمعية التأسيسية (دعاة المثالثة في المناصفة) إلى تدمير تجربة ناجحة.

السياسة (بمعنى إدارة شؤون المجتمع)، لا السياسة بمعنى التنافس على الوجاهة، هي فن التسوية ومراكمة التسويات. يلغي ثوار الفيدرالية والجمعية التأسيسية السياسة. يريدون العودة إلى نقطة الصفر أو إلى ما قبل 1920. يقولون أنهم يرفضون إتفاق الطائف لأنه تسوية. وهل كان ممكناً في ذلك الوقت سوى التسوية للخروج من الحرب الأهلية التي ما زال الرافضون للتسوية يخوضونها ضد الشعب اللبناني، وضد المجتمع الذي خرج من قبضتهم. لم يعد مهماً الدفاع عن إتفاق الطائف أو عدم الدفاع عنه بعد أن دخل في الدستور. لماذا العودة إلى نقطة الصفر ولدينا دستور؟ واجبهم، إذا كانوا جديين فيما يقولون عن الإصلاح، أن يعملوا لتعديل الدستور لا الحديث الممجوج عن الطائف والثلاثين سنة التي تلت.

أخطر ما في خطابهم هو الحديث عن حقوق الطوائف؛ هذه الطائفة أو تلك. لا حق لطائفة على الدولة، مهما كانت هذه الطائفة أو تلك، ومهما كان دورها في تاريخ لبنان الحديث والقديم. حقوق الطوائف ليست حقوقاً. هي واجهة لمن يريد نهب الدولة واستلابها والإستمرار في القبض على المجتمع. ليس للطوائف حقوق، بل عليها واجبات. واجبها أن تزول وتتلاشى كجماعات سياسية. واجب الطائفة هو أن لا تكون، وإن بقيت فهي يجب أن تبقى خارج الدولة. “حقوق الطوائف” تعبير يلغي السياسة، إذ يجبر كل فرد لبناني على الإندراج في الطائفة، حتى إذا كان لا يريد ذلك. الطائفة فعل مصادرة؛ تصادر اللبناني فور ولادته وتسجله على خانة مقررة سلفاً. ما يسلب حرية الخيار هو ما يلغي السياسة. الطوائف مجتمعات مغلقة، والحرية لا تكون أو لا تتطوّر وتكتمل، إلا في مجتمع مفتوح. الدولة وحدها، دون شروط (حقوق الطوائف) هي النافذة للعبور إلى الحرية. رواد الفيدرالية والجمعية التأسيسية (العودة إلى الصفر) هم رواد المجتمعات المغلقة وأعداء الحرية. لذلك انقضّوا على ثورة 2019. هما وجهان لعملة واحدة. خطابان للتعبير عن مضمر واحد.

تتزامن حملة العودة إلى الصفر، بدعوى إنشاء بنيان جديد خال من الفساد، مع حملة منهجية لإنتاج أزمات عدة متتالية أو متزامنة لتدمير الدولة ومؤسساتها. الإنهيارات التي تصيب لبنان ليست عشوائية، كما يبدو، بل هي مخططة مسبقاً لإنهاك المجتمع كي يقبل بما لم يكن يريده أو لم يكن يقبل به سابقاً؛ بالأحرى ما لم يعد اللبنانيون يقبلونه بعد ثورة 2019. يحلو للبعض القول أن الإنهيارات سببها أن لبنان محاصر. ليس المطلوب هنا مناقشة صحة أو عدم صحة الحصار. حتى لو وافقنا على فكرة الحصار، يحق السؤال عما فعله اللبنانيون للحؤول دون تأثيره على لبنان. ألا يمكن القول أيضاً أن هناك حصار داخلي: اللبنانيون يحاصرون أنفسهم. تتجلى فكرة الحصار الداخلي في أن لبنان بعد عام 2005 قضى سنوات عديدة في فراغ رئاسي أو حكومي، مما أنتج عجزاً سياسياً. بالأحرى عجز عن اتخاذ القرار أو القرارات التي تؤدي إلى استمرارية الدولة. عهد الفراغ في السنوات الست عشرة الماضية هو عهد الحصار الداخلي. وكأن لبنان أصابه كتام لا فكاك له.

وفي النهاية، أن بؤس السياسة في لبنان سببها فكر رجعي ووعي طائفي ديني، قائم على أركان ثلاثة. تراجع نظام المعرفة في لبنان بسبب تراجع التعليم مما قاد إلى تسلق نخب سياسية غير ليبرالية لا تعرف معنى قبول الآخر المختلف، ولا تقر بالتسويات. وأحزاب دون كيشوتية تريد بكل غباء تغيير العالم قبل أن تفهمه. تعتمد على نخب خلاصية أخذت من الغرب أسوأ ما فيه. أولويتهم ذاتهم، طائفيتهم، دينهم، حزبهم، وكل ما يقود إلى عصبية عمياء؛ ترفض التقدم وتشكك فيه. تتصوّر العالم معادياً. إنتهازية المنحى، وصولية السبيل، لا تسلك طريقاً مستقيماً، بل تفضّل ما اعوج فيها. الذين في السلطة منهم مصابون بمرض العظمة. أهدافهم كبيرة مضخمة وإنجازاتهم صغيرة. يحقدون على التاريخ لأن تطوره لا يناسب إيديولوجيتهم، ويحتقرون الجغرافيا لأن المكان الذي هم فيه أقل من تطلعاتهم. لا يعترفون بالدولة لأنهم لا يطيقون أن يشاركوا الآخرين من أبناء وطنهم بشيء.

ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق

Exit mobile version