طلال سلمان

بؤس الايديولوجيا اللبنانية

عندما أصدرت جريدة النهار العدد 28483، اختصرت “الكل في جريدة”. لم يكن في العنوان تواضع. ثم طبعت على الصفحة الأولى صورة رياض سلامة فوق نبيه بري وسعد الحريري. يجد اللبنانيون أماناً أكثر لدى الحاكم مما لدى السياسيين. النهار محقة. في الأزمات، يتولى الأمر حكام البنك المركزي، وأصحاب الأموال، والمودعون لديهم.

الأزمة موجودة ودائمة. منذ 75 سنة، أي منذ استقلال لبنان، لم نبن دولة، ولا وطناً، ولا نظاماً يستحق الذكر. يعتقد اللبنانيون أن في الأمر معجزة، والأمر غير ذلك. هو قصور عن بناء الدولة وحسب. قصور لا يحق لنا أن نفخر به. لكن الحياء عندنا مفقود. نحن مستعدون للوم الآخرين حتى ولو كانوا في الصين، من دون الاعتراف بدورنا ومآسينا. لا نعترف بالدور والمآسي وحسب، بل نفخر بهما. أليست تحويلات اللبنانيين من الخارج هي التي تجعل قطاع المصارف يقف على رجليه؟ إذن لبنان الفندق أمر مقبول ومرغوب به. أما أن نبيع شبابنا وبناتنا في بلدان آخرى، وهم أشبه بالرقيق، فإنّ الأمر لا يهمنا ما دام يدر أموالاً على لبنان. المصارف مستودع هذه الأموال. حاكم البنك المركزي يديرها. كل القيم الأخلاقية والمعنوية الموروثة دمرت. وما تبقى منها تحوّل الى فولكلور يتسلى به المغتربون والضيوف، في الصيف عندما لا تخلو قرية من مهرجان. يقدمون لنا ونقدم لهم الفولكلور. ليس الفولكلور هو البارادايم (المثل الأعلى) الذهبي بل هو المال ونتائجه علينا.

الوطن

تعبير الوطن غامض. وراء غموضه تختبئ أشياء كثيرة. نصير مشبعين بالروح الوطنية، في حين تكرّس معظم النظام للطائفية وانقساماتها المهينة، وقانون الانتخابات النيابية المهين. نتحلى بالروح عندما يتعلّق الأمر بالمال والنموذج الذهني الناتج عنه، ونتمسّك بالطائفية في كل الأمور الأخرى. المال يأتي من الخارج. إذن اللبنانيون وطنيون لا تشوب وطنيتهم شائبة، ومطيعون لقوانين البلدان المضيفة. عندما يعودون لقضاء الصيف أو العطلة، يتحولون لكائنات من نوع آخر. كائنات قوام سلوكهم العشوائية. يمارسون طائفيتهم في لبنان، يخرجون على القانون. عشوائية تطبيق القوانين وتبعيتهم لأباطرة الطوائف تنقذهم مما يرتكبونه.

لا حاجة للدولة وما يعنيه ذلك من أن يكون المرء مواطناً صالحاً يتقيّد بالقانون. لذلك غابت الدولة ومفهومها عن معظم الكتابات في ملحق النهار. البعض ميّز بين الدولة والنظام من دون أن يتوغّل في الأمر. مثال (Paradigm) الفندق ـ الوطن هو المهين. يبدو أن للبنانيين، أو بعضهم على الأقل، مصلحة في ذلك.

تعبير “وطن” يدفعنا للبحث في أمور أخرى مهمة. أهمها المواطنة. لم ندخل عهد بناء الوطن بعد لأنه لا يراد لنا أن نكون مواطنين مشاركين في النقاش والحوار حول أمور الدولة. يُراد لنا أن ننتخب وحسب. الانتخابات كما هو قانونها هي أشبه باستفتاء، كما في دول الاستبداد. الفرق أن في دول الاستبداد امبراطورا واحدا، أما نحن فلدينا خمسة أو ستة أباطرة.

تعبير الوطن أيضاً يفيد في التعمية. لسنا مواطنين (مشاركين) ولا يراد فضح ذلك. أكثر ما يقال إن الشعب طائفي وان لا حول ولا قوة لدى الطبقة السياسية كي تفعل شيئاً؛ لإنها اذا فعلت شيئاً، خاصة إذا كان جذرياً، فإن ذلك سوف يقوّض السلطة. سلطة أهل المال واهل السياسة. وهما متحالفان تحالفاً يجعل أهل السياسية تابعين لأهل المال.

ليس في الوطنية عيب. العيب هو في أن نستخدم الوطنية و”الوطن” لخدمة أهل المال والسلطة. لدينا الكثير من الموارد البشرية التي نفتخر بها. إذن، فلنصدرها. في تصديرها مال كثير يودع في المصارف. هو القطاع الوحيد الواقف على رجليه. يقول أصحابه انه يعاني. ربما احتاج أرباب المصارف منا الى “لمة” كي يستطيعوا المسير في مهماتهم الجليلة. كل ما يحتاجه الأمر هو بعض الاستقرار. وهذا تؤمنه القوى الأمنية والاستخباراتية وبعض القوى الكبرى الأجنبية.

الدولة

أما الدولة فهي أهم المحرمات في لبنان. يقتضي وجود الدولة أن يكون هناك مواطن وأن يكون له حق معرفة ما يجري في “الوطن ـ النظام”، وأن يقرر مصير ما يجري. ما من لبناني يغترب برضاه. أعرف الكثير منهم، وأعرف مشاعرهم تجاه ذلك. معظمهم يجد في نهاية المطاف، اي حين العودة، أن هذه الصفقة المالية التي عقدها حين سافر جاءت خاسرة.

مفهوم الدولة يعني أن يتصرّف الجميع حسب القانون والدستور، مهما كانا. الدولة تعودنا على القانون والتصرّف على أساسه. الوطن يعودنا على العشوائية. تفضّل نخبنا الوطن على الدولة. الوطن ليس للجميع. الدولة للجميع لأنّ الجميع يشاركون فيها ولا يُقبض عليهم من رقابهم، ويساقون الى انتخابات مهينة مغلقة اللوائح. كذب اللبنانيون على أنفسهم خلال عقود في سبيل النسبية. فإذا هي قيد إضافي على رقابهم.

لا تلزمهم الدولة إلا حين يكون البحث حول الشراكة بين القطاع الخاص والقطاع العام. إذا كان القطاع الخاص على هذا المستوى من النجاح والعبقرية، لماذا تلزمه الدولة؟ أم أن القطاع الخاص تلزمه الدولة لكي تؤمن له الرأسمال والقوانين والمزيد من إفقار اللبنانيين للقبول بما يُعرض عليهم. قليل مما يجري في أروقة السلطة يُعرض على اللبنانيين لتلافي النقد والتعريض. أرباب الأمر لا يحبون النقد والتعريض.

لا توجد الدولة إلا حيث يوجد المواطن. هناك استجداء للدولة وتواطؤ على المواطن. لا يُراد أن نصير مواطنين ذوي حقوق وواجبات محدودة. تصبح مطالب الناس أكثر وضوحاً واقناعاً، ولكن يبقى الفقراء من دون الحقوق والواجبات، ويبقون يتسولون وظائف غب الطلب لدى أباطرة الطوائف، ثم تكون تلبية مطالبهم حسنة يُمنحون إياها كعمل بر وإحسان.
وجود المواطن يعني أنه مشارك في كل شيء وأن لا تتولى الطبقة السياسية الأمور عنه. المطلوب من السياسيين في نظام ديمقراطي أن يمثلوا الناس، لا أن يحكموا بالوكالة عنهم كما قال أحد الزعماء.

الرأسمال البشري

يعني هذا التعبير، فوق كل شيء، أن يتحوّل الإنسان الى سلعة. يصير وسيلة للربح. لا يعود هو الهدف وهو مصدر الربح الذي يقتطع لصالح أصحاب المال. الإنسان السلعة هو الذي يُباع ويُشترى مع عمله، وبسبب عمله. لكن الاعتبار الذي يُؤخذ به هو أن العمل مصدر ربح. قيمة الإنسان ليست في ذاته بل تُقدر بما يتيحه عمله من ربح. على كل انسان أن يعمل، وأن يعتبر العمل حقاً له، وأن لا يلجأ الى امبراطور طائفي أو الى كبش وجاهة ليجد عملاً.

يتطلّب الأمر لحصول ذلك توسيع الاقتصاد ليشمل الصناعة والزراعة والخدمات لا أن يرتكز نظام البلد على بضعة مصارف تستخدم بضعة ألاف من الموظفين والأُجراء مهما بلغت كفاءاتهم. الذين يغتربون لديهم كفاءات أيضاً. يُباعون في سوق خارجية لأن السوق المحلية لا تستطيع استيعابهم. ذلك لأنّ النظام يقف على رجل واحدة. هي قطاع المصارف.

“الرأسمال البشري” يهاجر رغما عنه لا لأنه راغب في ذلك. الهجرة صارت مكوناً أساسياً في اقتصادنا بسبب ضيق فرص العمل. ولأننا تعاملنا مع شبابنا كسلعة تنتقل من بلد الى بلد حيث يكون السعر (الأجرة) أعلى.

هي في حقيقة الأمر دولة لا تحتاج الى شعب. هاجر من هاجر. والباقون في لبنان سوف يدلون بأصواتهم في لوائح مغلقة مرتبة من أعلى الهرم لا علاقة لها بأبناء الناس. الشعب لا يلزم؛ إذن يهاجر. من بقي يدلي بصوته في استفتاء عام للوائح مغلقة لا خيار له فيه. شعب لا يلزم. إرادته مغلق عليها. هو موجود وغير موجود. موجود كأشكال فيزيولوجية، لكن غير موجود كإرادة تشارك في النظام وما يقرر. عفواً، يلزم الشعب أحياناً في المظاهرات والمسيرات والاحتفالات عندما تريد الطبقة السياسة الاحتفال بنفسها. الشعب أيضاً في هذه التجمعات سلع، تُضخ إليها كمية من الشعارات التي لا معنى لها إلا كي تبقى مشدودة لمن هم في السلطة.

الشعب

الغائب الأكبر في هذا العدد من النهار هو الشعب؛ الشعب كمجتمع يتحوّل من الريف الى المدينة. مجتمع الوطن ريف متآكل غابت عنه أضواء المدينة. كُتّاب لا يتجولون في الليل، ليل المدينة. لا يرون تناقضاتها. يرون منها السلطة لكنهم يخفون تناقضاتها. مجتمع الرغبات في الريف لا ينفجر في المدينة. الانفجار الكبير عام 2011 ليس له صدى. لم يكن حدثاً محلياً بل عربياً وعالمياً. حاول اللبنانيون أن يكون لهم مكان فيه. فشلوا، لأن الحدث كان في قاع المدينة ودعي هؤلاء في الريف.

في عام 2011 انفجرت المجتمعات في وجه السلطة. أما الكُتّاب في جريدة لنخبة تهمها السلطة، لا غير السلطة، فمن واجبها إخفاء ما حدث عام 2011 في ميدان القاهرة وميادين العرب والعالم.

لا غرو في ذلك. هي رؤية يغيب عنها التاريخ ومن يصنع التاريخ.

تنشر بالتنسيق مع موقع الفضل شلق

Exit mobile version